عصيد والصلاة: فتوى الفيلسوف الفقيه ذ. يونس الناصري

كتب الناشط العلماني أحمد عصيد مقالا في جريدة هسبريس عن الآثار السلبية التي تتركها تأدية الصلاة المفروضة من قِبَل الموظفين على سير عمل الإدارات العمومية، مبينا أنها تضيع مصالح الناس المراد قضاؤها، وموضحا أن الموظفين المغاربة من غير استثناء يتمسحون بالصلاة ليتخلصوا قليلا من أعباء العمل؛ ويتملصوا من أداء واجبهم الوطني، مؤكدا على المسؤولين ضرورة التعامل الصارم مع موظفي الدولة بخصوص هذه المسألة، ومؤلبا الرأي العام على الموظفين المؤدين لواجبهم تجاه ربهم سبحانه وتعالى.
لا غرابة في أن يتحدث هؤلاء عن الحريات من تبرج وتطرف فكري؛ مكرر لافتراءات وأراجيف المستشرقين، وغير ذلك من شذوذ مادي ومعنوي، وإنما الغرابة في أن يتطاول من هم أبعد الناس عن أداء الواجبات الإسلامية على فرض واجب مؤكد مهم من أركان الإسلام الحنيف، تجاوز هؤلاء القنطرة لما وجدوا بيئة الاستخفاف بالدين ملائمة، وسط صمت مطبق لمن مسؤوليتهم الدفاع عن حياض الإسلام بألسنتهم وأقلامهم.
وقارئ مقال عصيد يحس بأنه يسعى إلى نمط جديد من استثارة مشاعر المسلمين، بتقمص شخصية الغيور على الشريعة والوطن، وهو يسر حسوا في ارتغاء، إذ إن كلامه قد يبدو لغير الخبير بالطروحات الفكرية والأسس الإيديولوجية للعلمانيين المتطرفين كلاما منطقيا مقبولا، مادام يصب في مصلحة المواطنين، ولأنه فعلا قد يمكن لبعض -وليس لجميع- الموظفين أن يزيد دقائق معدودة في تأدية صلاته، تاركا عمله برهة من الزمن.
غير أن من يعرف منهج بني علمان يستشعر خطر مثل هذا التطاول الشنيع على الصلاة في بلد ديانته الإسلام، خطر يتجلى في مغالطات سُفسطائية استمرأها عصيد وشيعته، وأراد من القارئ أن يستمرأها هو أيضا بوعي أو بغير وعي.

المغالطة الأولى
قوله: “ففي المرجعية الدينية الإسلامية، الصلاةُ وقوف العبد بين يدي ربه، هو وقوف فردي وإن تم مع الجماعة، حيث يؤدي كل واحد “دينه” الذي عليه للخالق، ويحاسب عليه لوحده، ثم “ينتشر في الأرض” كما يدعو إلى ذلك القرآن” .
لن أقف عند تَكراره لعبارات جولد سيهر ومارجيليوت وماسينيون وغيرهم ممن ينقل عنهم، مثل: “المرجعية الدينية الإسلامية” و”القرآن” مجردة من وصفه بالكريم؛ لأن إزالة صفة القداسة عن الإسلام الحنيف والقرآن الكريم من أسسهم الكبرى التي ما يزالون مدافعين عنها سرا وعلنا، وإنما سأشير إلى أهمية وجوب الصلاة في الوقت مع الجماعة، تذكيرا لنفسي وللمسلمين الطيبين.
فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} النساء/103، وقال جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} البقرة/238، وهمَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بتحريق البيوت على أصحابها المتخلفين عن حضور صلاة الجماعة ، واعتبر هو وأصحابه رضي الله عنهم من يتخلف عن صلاة الصبح والعشاء منافقا معلوم النفاق، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن الصلاة أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة..
هذا تذكير للمؤمنين الذين يقدرون الشريعة قدرها، أما عصيد وغلمانه فأقول لهم: إنكم لم تفهموا مقاصد الإسلام في الصلاة بسبب بعد قلوبكم وأرواحكم عنها وعن باقي شعائر الإسلام الراقية، ومن ثمة لم تستوعبوا إيجاب الإسلام للصلاة في جماعة، وإن كان كل واحد سيحاسبه ربه كما قلت؛ ذلك أن فكرة التوحيد التي بني عليها الإسلام تنسحب على باقي أركانه وجزئياته، فاجتماعنا للصلاة يورث محبة وتعارفا وأخوة وزيادة إيمان وتعاونا وهلم جرا؛ لأن الإسلام دين اجتماع وألفة ومودة وإخلاص، ليس كدين العلمانية التي تفرق صفوف المجتمع وتزرع فيه بذور الشر والفتنة، متأسية بالغرب في حركاتها وسكناتها، هذه هي فلسفة الصلاة في جماعة، التي لم يستوعبها عقلك المحسوب على الفلاسفة.
أضف إلى ذلك أن الصلاة تعلم المسلمين أمورا نفسية جليلة القدر، على رأسها التفاني في العمل وخدمة الناس وعدم الغش مصداقا لقوله عليه السلام: “من غش فليس منا”، ويكمل ذلك ويجمل حين يصلي الناس مجتمعين متآلفين؛ إذ لا يعقل أن يصطف مئات أو آلاف المسلمين في حالة خشوع واطمئنان، تتماس أكتافهم وأرجلهم حسيا، وتتواد قلوبهم وأرواحهم معنويا، ثم إذا انتشروا في الأرض يكيد ويمكر بعضهم ببعض، فكان أولى أن يتحدث عصيد -إن كان يبتغي الإصلاح حقيقة- عن ضرورة إقامة الصلاة كما شاء الله تعالى، والاستفادة مما تورثه من صدق ومودة وإيمان، ويدخل ضمن الاستفادة من الصلاة عدمُ زيادة أي وقت إضافي بسوء نية بعد قضائها في المسجد، لكن وراء الأكمة ما وراءها.

المغالطة الثانية
قوله: “والعمل آنذاك في الواقع القبلي بجزيرة العرب كان عبارة عن مهن حرة، ولم يكن عملا بمرتب شهري أو أسبوعي، أو منظما وفق تقسيم زمني محدد في وظائف عمومية، نظرا لانعدام الدولة بمعناها العصري الحديث في ذلك التاريخ..”، وإذا قرأ الإنسان عبارة “الواقع القبلي بجزيرة العرب”، ظن أن الحديث عن عصر امرئ القيس وليس عن عصر الإسلام، وفي ثنايا الكلام استنكاف عن ذكر المدينة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ما علاقة المرتب الشهري لوظيفة ما بأداء الصلاة في وقتها بشكل منظم؟
ثم أليس ترك منتوجات المهن الحرة والذهاب إلى المسجد فيه خطورة على السلع بمختلف أنواعها؛ لأنه لم يكن هناك محلات تجارية عصرية لها أقفال منيعة كعصرنا الحالي؟ بخلاف المؤسسات العمومية التي يحرسها أمن منظم، ولا خوف على مرافقها ووثائقها؟ فمن أولى بالصلاة في وقتها؟
لذلك فمسجد السوق لا يشترط فيه إمام يؤم الناس، بل تصلي جماعة تلو جماعة، وهو نفس ما يحصل في مساجد مؤسسات الدولة، إلا أن عصيدا امرؤ أعماه الحقد فلا يعقل ما يقول.
ثم إن الدولة بمعناها الحديث لا تنافي أداء الصلاة في الوقت مع الجماعة؛ لأن الإسلام العالميَّ لم ينزل للعرب وحدهم في الجزيرة العربية، وإنما أوحِيَ ليتبعه الناس أجمعون في كل زمان ومكان، والله أعلم بالدولة الحديثة وما بعد الحديثة (المستقبل) لما أوجب الصلاة في جماعة قبل أن يُعرَف شيءٌ اسمه عصيدٌ، ولا يخفى على المتابع أن هذا الكلام تكرار لآراء المستشرقين المشككة في ربانية الإسلام وعالميته.

المغالطة الثالثة
وهي أمر لا بد أن يحشره عصيد في كل مقالاته، ويعيده بأساليب ملتوية ماكرة، قد لا يلتفت إليها القراء، وذلك حينما قال: “وقرار ترك البيع والذهاب إلى المسجد فورا أمر متروك إلى ضمير الفرد المسلم وإرادته، وليس إلى سلطة أخرى تجعله ينضبط لقرار سلطوي دنيوي..”.
فكما يبدو تلوح في هذه البهرجة السفسطائية فكرة الحرية الكونية التي يناضل عصيد وكوكبته من أجلها، معارضا بذلك آيات صريحة يأمر فيها الخالقُ المعبودُ كلَّ من أسلم طوعا أن يلتزم الصلاة في جماعة، وأنه إذا خالف ذلك فقد ارتكب جُرما لا يُغتفر إلا أن يشاء الله شيئا، ومخالفا ما ثبت عن الرسول الكريم من تأكيده على الصلاة في الجماعة هو وأصحابه الأفاضل، وأنه عليه السلام وصحابته لم يضيعوا صلاة في جماعة أبدا؛ إلا أن يكون هناك عذر قاهر، بل إن الرسول وأصحابه يحرصون على الصلاة مجتمعين في حالة جهاد العدو (تنظر الآية:101 من سورة النساء)، ولكن عصيدا وشيعته قوم لا يفقهون.
انتقل عصيد بعد ذلك إلى إفراغ حقده الدفين على بلاد الحرمين ومهبط الوحيين كما هو ديدنه، لما قال: “ولهذا فخلافا لما يتم في الأنظمة الاستبدادية كالعربية السعودية مثلا، لا يحق لأي سلطة دنيوية أن تغصب الناس على ترك عملهم والذهاب إلى الصلاة؛ لأن ذلك أمر متروك إلى الفرد واختياره الحر، كما ليس من حقها كذلك منعهم من ذلك، ومن ثم فأداء الصلاة في وقتها وتأجيلها إلى حين، قرار يتخذه الفرد حسب ظروفه الحياتية”، والعجب من هذا العلماني كحال إخوته يزعمون الدفاع عن الحريات -وكلام عصيد في مقالته كلها مبني على الحرية الطائشة- ثم يتدخلون في شؤون بلد مسلم لازال الخير منتشرا في ربوعه، ويريدون جعله علمانيا إباحيا حسب هواهم، وكلما أتيحت لعصيد الفرصة وجه نيران بنادقه إلى السعودية، التي وسمها بالعربية؛ لأن زحف الاحتلال العربي للمغرب الأمازيغي جاء منها حسب تصوره الفاسد، لذلك فهي الخصم اللدود الذي يقض مضاجع العلمانيين.
والمعلوم -كما سمعنا- أن الشعب السعودي من أحرص المسلمين على الصلاة في الوقت مع الجماعة -وإن كانت له أخطاء- اتباعا لأوامر الله جل في علاه وتطبيقا لسنة رسوله الكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يوجد إجبار للناس على ترك محلاتهم ومكاتبهم لأداء الصلاة، كل ما في الأمر أن المسلمين اعتادوا فعل واجبهم بتلقائية تجاه ربهم، وأن العلمانيين يفترون ويغالطون الناس بمثل هذا الكلام العاري عن الصحة مرضا منهم وجهلا، ليرسخوا في الناس الاستهانة بالواجبات شيئا فشيئا، انتهاء إلى تركها جملة وتفصيلا تحت مظلة الحرية الفردية، التي في أصلها عبودية شهوانية.
وللبحث بقية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *