لماذا اخترنا الملف

لقد مرَّ مغرب القرن التاسع عشر بعدة مآسي، من أفظعها موقعة إيسلي التي كانت الانطلاقة الفعلية لهذه المآسي في تاريخ المغرب المعاصر، وبداية الانهزام المكشوف وتمزيق الستار الذي كان يحجب المغرب المريض ويستر عيوبه التي ظهرت واضحة للجميع بعد موت السلطانين إسماعيل ومحمد بن عبد الله.
فكان هذا الوضع دافعا للإسبان كي يقوموا بمحاولة هدم للعدو التقليدي القديم، حتى إذا لم تمكنهم هذه المحاولة من تحقيق ما حققه الفرنسيون في الجزائر، فلا أقل من أن يتمكنوا من التوسع والزيادة في الممتلكات المغتصبة في الشاطئ المقابل لسبتة ومليلية.
هذا ما جعل الإسبان يدفعون المولى عبد الرحمن بن هشام إلى توقيع وثيقة تنص على مطالب سبع، من بينها إعادة حدود سبتة إلى ما كانت عليه، وذلك بتاريخ 13 رمضان 1260هـ/7-10-1844 أي بعد هزيمة إيسلي بأقل من شهرين مما يدل على خبث الإسبان وأنهم وقتها انكبوا يبحثون عن وسيلة للقيام بعمل ما ضد المغرب اقتداء بالفرنسيين.
فالمغرب لم يعرف في معاملاته الدولية مرحلة كالتي بدأت ما بعد معركة إيسلي التي حطمت معنويات رجالات الدولة بما فيهم السلطان الذي أصبح لا يتحرك إلا بمشورة القنصل الانجليزي.
ومن مآسي مغرب القرن التاسع عشر حرب تطوان 1276هـ/1859م، هذه الحرب التي خطط لها الإسبان تخطيطا محكما انتزعوا فيه الوضع المتقدم في المغرب من فرنسا وانجلترا وباقي الدول التي كان لها طموح في المغرب من جهة، وأوقعوا السلطان والدولة ورجالاتها في مطب توقيع المعاهدات المجحفة من جهة أخرى.
ونتج عن هذه الحرب تعنت التجار والرعايا الأوربيين الذين تغيرت لهجتهم تجاه السكان المغاربة، وقد جاءت الإشارة إلى هذا في الخطاب الملكي آنذاك: “هؤلاء النصارى كثيرا ما يتعنتون فيما يعرض لهم بمراكش وغيرها من الدعاوى، ويريدون أن يكون العمال (ولاة الأقاليم) وكلاء لهم في قبض ما يجب وما لا يجب، وإلزام ما يلزم وما لا يلزم..”.
كما تفاقمت المشكلات الترابية كادعاء الإسبان سنة 1280هـ/1863م أن رايتهم أهينت على يد المغاربة حول الحدود مع مليلية -وذكّر هذا بأحداث ما قبل حرب تطوان- وهدد الإسبان بقيام حرب جديدة لم يكن المغرب مستعدا لها معنويا ولا عسكريا.
كما أدَّى تعاظم نفوذ القناصل إلى مزيد من تعسفات المحميين، حتى إن القناصل أنفسهم اشتطوا في استغلال نفوذهم وفرض سلطتهم على الأجهزة الحاكمة، وهكذا تضررت البلاد سياسيا وقضائيا ودينيا من الحماية القنصلية.
فالمغرب عبر تاريخه لم يعرف هذا المستوى المنحط في السياسة، سواء في الداخل أو الخارج، على الرغم من وجود رجال كيسين وسياسيين محنكين، لكن الفساد استشرى في جسم الدولة المغربية، واتسع الخرق على الراقع.
إن هذه الحرب، على الرغم من كل هذه النتائج، تمثل رمزا لشهامة السلطان محمد بن عبد الرحمن، وعدم تنازله على بعض أهل أنجرة الذين طالب بهم الإسبان لتنفيذ عقوبة الإعدام في حقهم، وإن أدى ذلك إلى ما أدى من إهدار المال والأنفس دفاعا عن الحق.
وهذه صورة من أروع ما سجله التاريخ عن حاكم اتجاه رعيته، بعيدا عن الانتهازية المكيافيلية المقيتة، فإن محمد بن عبد الرحمن أبى إلا أن يحافظ على كرامة دولته بين الدول وقيمة شعبه بين الشعوب وأن يخوض الحرب مع الفارق في القوة والاستعداد، ولا يتنازل عن أهل أنجرة الذين كان لهم شرف الدفاع عن كرامة المغرب والمغاربة.
فكل هذه الأحداث والظروف العصيبة التي مرَّ بها مغرب القرن التاسع عشر، والتي كان من أهم أحداثها حرب تطوان، وما أعقبها من إفرازات وتبعات خطيرة دفعتنا في منبر “السبيل” إلى فتح هذا الملف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *