قلق السلطان من نوايا الفرنسيين تجاه الإصلاحات

تبعا للحلقة السابقة يتبين لنا الوضع الذي أصبح فيه السلطان وقد صار محاصرا، بين تنفيذ الإصلاحات والتحقق من نوايا الفرنسيين، خاصة وأنه لم يبق له من السلطة إلا السيادة الشكلية، التي سيعمل الفرنسيون على رفع شعارها في وجه القبائل، والمُسرَّح من الجنود، والقياد الرافضين لغزوهم واستيلائهم على مؤسسات الدولة، كما يبرز دور الحاشية المتواطئة مع الغزاة، سواء الدبلوماسيين أو الوزراء، بحيث لم تعد تجدي مناورات السلطات في عرقلة ما أبرموه في العواصم المهتمة بالمسألة المغربية.
يقول ” فريدريك وايس جيربر”: “بعد أن كان السلطان تلقى البعثة الفرنسية بحسن الاستقبال، صار اليوم يعتقد أن في مقدوره الاستغناء عن هذه البعثة، فقد عاد إلى النظام القديم، نظام المحلة والعصابات رثة الثياب وغير المنظمة، مؤثرا الكم على الكيف، حيث صار بحوزته آنذاك 20 ألفا من العساكر، وخُيِّل إليه أن هذا الجيش يكفيه في جميع الاحتمالات، حتى احتمال الحرب مع إحدى القوى الأوربية، يقدم الدعم للقبائل المتمردة عليها، فقد أوحى له العصيان الذي اندلع في كطالونيا بأن يمد العون للريفيين لدفع الإسبان عن مليلية، فيقدم بذلك للعالم لأول مرة منذ إجلاء البرتغال عن الجديدة سنة 1759، مشهدا لنجاح فعلي قد أحرزه سلطان المغرب على المسيحيين؛ وكان مولاي حفيظ استقبل منذ وقت قريب أحد أهم القادة الريفيين، جاء يطلب عونه لمحاربة الإسبان… وقد اغتنمت مقام هذه الشخصية بفاس لأستعلم منه طريقة أبناء جلدته في القتال، فقال: إن منا كثير يمتلكون “كارابينات” سريعة الطلقات، وإن بحوزة كل دشر من دشورنا مخزونا صغيرا من هذه “الكارابينات” ليتسلح بها أفراده الذين لا يملكونها، ولدينا كذلك قوالب للرصاص، وآلات لإعادة تعبئة القرطوس من البارود، الذي نصنعه بأنفسنا إذا أعوزنا البارود المهرب، وأما ما ينقصنا فهو القدرة على تزويد عدد كاف من المقاتلين بالمؤونة والذخيرة، فلذلك صارت قواتنا لا يخرج منها اليوم للقتال إلا العشر، ويستبدلون كل 15 يوما، ويفترض بنا أن نقدر على أن نضرب في وقت واحد بربع قواتنا على الأقل” ص:201.
لقد أسقط المغاربة مولاي عبد العزيز بسبب انحيازه للفرنسيين، وجاءوا بمولاي عبد الحفيظ لرفض ذلك، وإخراج الغزاة من البلاد، وبقوا متفانين كما يقول “وايس جيربر” في كره الجانب بمساعدة المخزن، إلا أن توجه السلطان قد بدأ يتغير، ويقوم بالموافقة على ما وافق عليه سلفه بل ويزيد، وفي ذلك يقول للصحفي “وايس جيربر”: “أنا راغب بكل صدق في السير يدا في يد مع فرنسا، لكن حولي أناسا أشرارا يجدون مصلحتهم في تعكير صفو علاقاتي مع الحكومة الفرنسية، وقد أخطأت الصحافة في حقي كثيرا، إذ صورتني في صورة العدو اللذوذ للأوربيين وللإصلاحات، ورمتني بأسوأ الشرور… ولم يسبق للأوربيين في المغرب أن وجدوا قطا من الاعتبار والأمن قدر ما يتمتعون به اليوم… إني أقدر الخدمات التي تقدمها لي بعثتكم العسكرية، وأما مسألة قياد الغرب فسيتم تسويتها في أقرب الأوقات بما يسركم ويرضيكم، وقد كلفت سفيري في باريس بأن يتقدم إلى حكومتكم بتصريحات لن تدع كما أؤمل من شك في مشاعري” ص:206.
هواجس السلطان
وابتداء من عودة القنصل الفرنسي إلى مقر عمله بفاس، في مطلع سنة 1911، سيبدأ تنفيذ التطويق النهائي للسلطان، والعمل على توسيع الغزو الفرنسي للبلاد، خاصة ربط العاصمة فاس بالدار البيضاء عن طريق الرباط، وتهيئة اختراق ممر تازة لربط وجدة بفاس.
جاء في مراسلة لـ”دوبيليي” إلى وزير الخارجية “بيشون”، بتاريخ طنجة 14 يناير 1911:
“قنصلنا بفاس الذي عاد إلى مقر عمله بعث لي بتقرير عن لقائه مع السلطان في اليوم الثاني لوصوله، أبعث لكم بنسخة منه، وهو يبين النتائج التي خرج بها من ذلك اللقاء الذي يبين أن مولاي حفيظ ينتظر مزيدا من دعم الجمهورية له، من أجل ذلك فإن أحاسيسه ما فتئت إيجابية لصالحنا”.
ملحق “التقرير”
من “كايار” قنصل فرنسا بفاس إلى “دوبيليي” السفير المفوض لفرنسا بطنجة:
فاس 7 يناير 1911، وصلت فاس يوم 2 من الجاري مساء فطلب السلطان مني الاتصال به في الغد، حيث استقبلني بقصره بحفاوة بالغة، وقد أعدت في هذا اللقاء الأول التذكير برسالة رئيس الجمهورية له، فتقبل ذلك بصدر رحب، لكن لاح لي من خلال معلومات خاصة حول ذلك الانطباع أن وراءه قلق خفي من طول مكوث المقري بباريس، وقد قال لي بأنه يتابع بحرص سياسة التعاون التي ما فتئنا نصرح له بها، معتقدا بأن دعمنا له في المستقبل سيكون سليما، مضيفا بأنه بدأ من شهر أكتوبر الأخير عملية تنظيم قواته وتنزيل الإصلاح الكفيل بجعلها على شكل منظم حديث، والذي بدأ يعطي نتائج حسنة تحت إشراف بعثتنا العسكرية، لكن إعادة تكوين وتنظيم تلك القوات يلزم بكل تأكيد ضمان مصادر مالية منتظمة للمخزن قصد تموينها غير قابلة للانقطاع، وقد أجبته بأني على علم بالمسألة من خلال قائد بعثتنا العسكرية الذي أطلعني على تلك الصعوبات والحاجيات بمجرد عودتي، وأعربت له عن سعادتي بهذا التقدير الخاص الذي يكنه لضباط بعثتنا، والثقة التي حضوا بها في تنظيمهم لقواته الشريفة” ص:47 رقم:39.
ولم يمض أقل من شهر حتى تحقق مراد الفرنسيين من موافقة السلطان على بعض ما كان يتردد في إنفاذه، وإن كان ما يزال مستريبا في نوايا الفرنسيين تجاه ما يريدون إنجازه مقابل ما يصرحون به، وهو ما تبرزه مراسلة “كايار” قنصل فرنسا في فاس، إلى “دوبيليي” السفير المفوض لفرنسا بطنجة.
جاء في الرسالة، فاس 14 فبراير 1911: “توصل السلطان برسالة من الحاج محمد المقري، اطلعت بسرعة ما جاء بها، خاصة ما يتعلق بالكومندار “منجان” وإنشاء ميزانية عسكرية والتفاوض الموقوف حول مباحثات الأشغال العمومية، مولاي حفيظ استحسن اقتراح قائد بعثتنا العسكرية المتعلقة بإدارة القوات، لكن المقلق هو رؤية قلة الأعداد المتوقعة، بل مستحيل أن يضيف المخزن عددا آخر من الجنود، المخزن جدد الأمر بالتوقف ونفذ إصلاحا ماليا وإداريا لم يتمكن إلا من جمع 5000 جندي، كون ثكنات فاس ومكناس وكذلك القصر، حيث يلزم على الأقل 100000 جندي، مولاي حفيظ لا يجهل بأن الجنود مؤطرون ومدربون بشكل جيد، لكن رغم ذلك هناك مسألة العدد ضرورية للضغط على القبائل إذا ما أراد المخزن حقا إبقاء العدد الكافي من الجند بالعاصمة، فإن الذي سيذهب إلى الحركة لن يزيد على 1500 رجل أو 2000 يمكن اعتراضها من طرف أي جماعة مصممة على المقاومة، كما يمثل النموذج الجديد للغارة المنجزة من طرف القوات الفرنسية بتادلة -حيث لقيت هزيمة منكرة- وأخيرا الإصلاح العسكري سيكون بالكامل عبثا، وغير مجدي إذا لم يتبع بتنظيم إداري للبلاد يبدأ بالنواحي الأكثر خضوعا للمخزن، وقد صرح السلطان بأنه عازم على السعي في ذلك الاتجاه، لكن يجب مراقبة ما يجب إلغاؤه مما لا يؤدي للإخلال بواجب الوظيفة الضامن للأجر.
أجبت بأن هذا الذي ظهر لي بقوة صوابه، لكن مع الأسف الضرورة المالية مقتضياتها لا تمثل لنا عائقا، بل تلزمنا بدون شك بتحديد عدد القوات في الوقت الحاضر على الأقل، لقد تباحث السلطان معي أيضا في الأشغال العمومية، حيث سأل عن ميناء طنجة والدار البيضاء، وإقامة الخط التلغرافي، والخط السككي الحديدي بين طنجة والقصر والدار البيضاء وسطات ووجدة وتاوريرت، هذه المشاريع التي يرى أنها سترفع من نمو البلاد، وتزيد مداخيل المخزن، لكنه يحتفظ بقرارها لأنه عازم على ألا يلتزم بقرض، ولا بتنفيذ أي مشروع عام إذا كان التصديق الذي كلف به المقري لم يحز على موافقة الحكومة الفرنسية، ولا يدري هل ستوافق عليه من أجل جعل سياسة التعاون بين المخزن وفرنسا قابلة للتنفيذ.
الحكومة المغربية سبق أن انخرطت في إصلاح النظام العسكري، مولاي حفيظ قال لي ختاما بأنه يريد انتهاء بواعث مسألة الأشغال العمومية مع وزيرنا، سواء في طنجة أو الرباط، وقد بعث بتعليماته للمقري في هذا الباب، لاحظت أن صاحب الجلالة سيبقي على محاصرة الأشغال العمومية، وتنفيذ السكة الحديدية في وجدة والشاوية، حتى يتم تحديث الجيش، إلا إذا قامت فرنسا بتقديم المطلوب منها، خاصة وأن تلك الأشغال ستتم في الأراضي المحتلة من طرفها، ولا تطرح أي مشكل” ص:102 رقم:69.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *