مصطفى العلوي و”الوهابية البنكرانية” الحلقة الثانية الدكتور محمد وراضي

الوهابية التي تهاجمها بغير علم كما يبدو، مذهب إسلامي يرمي إلى تخليص الشريعة من الشوائب. إنها مذهب دعا إليه محمد بن عبد الوهاب النجدي في القرن الثاني عشر الهجري، وما دعا إليه يمثل محطة دينية تاريخية من ضمن المحطات التي تقدمتها بزعامة علماء أتقياء أصفياء مرموقين..

يدرك صديقي أن الله أمرنا بطاعته، وبطاعة نبيه، وبطاعة أولي الأمر، حيث يقول عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ”.
فاتضح من الآية كيف أن النزاع واقع لا محالة بيننا وبين أولي الأمر منا، والذين هم العلماء والحكام، عندها نلجأ إلى الكتاب والسنة بحثا عن الحلول المفتقدة، أما أن نقبل ما يفرضه علينا زيد أو عمرو، فلا وألف ألف لا، خاصة متى تناقض مع النصوص النقلية الواضحة الدلالة.
والفرق هنا بين وجوب الطاعة، وبين الاتباع، كالفرق بين النهار والليل. فإن فرضت علينا طاعة الله وطاعة الرسول، فإن اتباع فقيه أو محدث أو عالم أو صوفي، غير مفروض علينا بأي وجه. والحال أن العلماء بالله هداة متنورون، وما يجب علينا نحوهم هو احترامهم وتوقيرهم واستفتاؤهم بخصوص ما لا نعلمه، أو بخصوص ما أشكل علينا أمره، بدليل قوله تعالى: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” هكذا بإطلاق نسأل من نريد، ونحن أحرار في اختياره.
فقد جرت العادة بالبحث عمن ترتاح لهم النفوس، وتطمئن إليهم القلوب، ومن هنا جاء اختيار المالكيين لمالك، والأحناف لأبي حنيفة، والحنابلة لأحمد بن حنبل، والشافعيين لمحمد بن إدريس الشافعي، على اعتبارهم مرشدين موثوقين، دالين على النهج القويم في الدين.
إنه إذن نوع من المبايعة بيننا وبين إمام بعينه، وليكن هو مالك بالنسبة إلينا كمغاربة؛ وكل مبايعة -للتذكير- تعاقد صريح أو ضمني، يفرض على طرفيه الالتزام بمضمونه، فتكون مبايعتنا لمالك امتدادا لمبايعتنا للرسول صلى الله عليه وسلم، ومبايعتنا للرسول، مبايعة له عز وجل. وإن خنا مبايعتنا لمالك، نكون قد خنا الله ورسوله في الوقت ذاته، وهو سبحانه قد حذرنا من الخيانتين كلتيهما فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”.
فإن نحن اعتبرنا بدع الجنائز المشار إليها قبله من الدين الحق، أي مما كان يفعله صلى الله عليه وسلم، فقد خنا الإمام الذي التزمنا بانتهاج نهجه في التدين! وخنا البشير النذير في الوقت ذاته! ومتى خناه، نكون قد خنا الله الذي قال -والخطاب موجه إلى مجتباه-: “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ”، مما يعني أن حب الله ورضاه لن ينالهما من لم يقدم حب رسول الله على حب أي كان! وحبه صلى الله عليه وسلم في طاعته، وطاعته في اتباع سنته. أما أن ندعي حبه أو محبته -ونحن عاكفون على البدع المتقاطعة تمام التقاطع مع أقواله وأفعاله وتقريراته- فنحن حينها إنما نخوض ونلعب.
وهكذا ينبغي أن تفهم يا صديقي العزيز، كيف أن الوهابية التي تهاجمها بغير علم كما يبدو، مذهب إسلامي يرمي إلى تخليص الشريعة من الشوائب. إنها مذهب دعا إليه محمد بن عبد الوهاب النجدي في القرن الثاني عشر الهجري، وما دعا إليه يمثل محطة دينية تاريخية من ضمن المحطات التي تقدمتها بزعامة علماء أتقياء أصفياء مرموقين، كان ديدنهم السهر على حماية الدين من التحريف والمغالاة. فبين أيدينا كتاب “البدع والنهي عنها” لمحمد بن وضاح الأندلسي، وكتاب “الاعتصام” للإمام أبي إسحاق الشاطبي، وكتاب “تلبيس إبليس” لابن الجوزي، وكتاب “مجموع فتاوى ابن تيمية” لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
وحتى نصحح الخطأ الفادح الذي وقعت فيه -وأنت تربط ربطا غير دقيق بين محمد بن عبد الوهاب، وبين الشيخ ابن تيمية- نورد قولك بخصوصهما: “لأن أعراف العقيدة الوهابية التي وضع أسسها المؤسس عبد الله السعودي (؟؟؟) وقطب الوهابية محمد بن عبد الوهاب. العقيدة التي توسع في جمعها العالم ابن تيمية في مجموعة ضخمة. كان الحسن الثاني أصدر أوامره بمنعها من الدخول للمغرب. لأن الحسن الثاني غير متفق مع الوهابية (…) التي تنطلق من قاعدة “محمد رسول الله، لا يجب وصفه بأوصاف المدح والتعظيم، ولا تعظيم الأئمة ولا الأولياء، يدفنون موتاهم من غير مشهد واحتفال، لا يأكلون اللحم إلا نادرا، ويعيشون بالتمر والجراد والسمك” الوهابية كما وردت في “الاستقصا”.
وكلامك المبهم الغامض، وإن نقل بعضه عن “الاستقصا”، عار في جملته من الصحة، فتاريخيا عاش ابن تيمية من عام 661 إلى عام 728هـ (=1262-1367م)، وتوفي محمد بن عبد الوهاب عام (1226هـ- 1811م). فيكون الفرق الزمني بين الرجلين من حيث تاريخ وفاتهما هو 444 سنة، أي أربعة قرون ونيف!
فكيف يتأتى للسابق في الزمن أن يمطط الوهابية ويشرحها في مجلد عدد أجزائه -وهو في ملكي- سبع وثلاثون جزء بالتمام والكمال؟
يعني أن ابن تيمية خرج من قبره فقرأ كتابات محمد بن عبد الوهاب في الدين، فاستحسنها بعد أن استوعبها، و”توسع في جمعها” ووضعها في مجلدات ضخمة، لا أستطيع شخصيا حملها، ولا حمل نصفها، مع التردد في قدرتي على حمل نصف نصفها المنحصر تقريبا في تسعة أجزاء!
ولنتجاوز هذا الخطأ الذي لا أظنك سوف تنكره. أما قولك: إن الحسن الثاني “غير متفق مع الوهابية”، فذلك شأنه وهو حر في اختياراته. أما ادعاؤك أنه أصدر أوامره بمنع “مجموع فتاوى ابن تيمية” من الدخول إلى المغرب فادعاء يفنده الآتي:
على واجهة المجلد الأول من “مجموع الفتاوى” نقرأ: “طبع بأمر خادم الحرمين الشريفين: حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز آل سعود. وعلى نفقته الخاصة. أشرف على الطباعة والإخراج. المكتب العلمي السعودي بالمغرب (يوزع مجانا).
وفي الصفحة الثانية من المجلد الأول نقرأ: “بكل افتخار تم طبع ونشر هذه المجموعة من فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بمكتبة المعارف، زنقة باب شالة. صندوق البريد رقم 239. الرباط-المغرب”! وقد تم طبعه في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وكنت حينها طالبا بدار الحديث الحسنية، فتمكنت من الحصول عليه بالمجان كباقي زملائي في الدراسة!
فما قولك أخي وصديقي قيدوم الصحفيين المغاربة؟
هل اقتنعت بأنك قد ساهمت في تضليل قراء مقالك الأسبوعي، وبأن عليك الاعتذار لألوف منهم نشروا عبرك في أصدقائهم وفي معارفهم وفي أسرهم وأولادهم وبناتهم، ما زودتهم به من معلومات تشم منها رائحة المقولة السائرة “من جهل شيئا عاداه”؟
وليتك وقفت عند هذا الحد من المزالق التي أدخلتها في إطار “الحقيقة الضائعة”، بل إنك قدمت لنا معلومات أخرى غريبة وأنت تقول: “فعندما كان الملك الحسن الثاني يتوجه بانتظام سرا وعلنا إلى الديار المقدسة، وكانت تجمعه بملوكها صلات أكثر من تلك التي تعرفها الآن (…) يرفق معه في طائرات خاصة (كم عددها؟؟؟) مجموعة المادحين، يرافقونه إلى المسجد النبوي لقراءة “دليل الخيرات” فإن الملك السعودي، يقف وينسحب ويترك الحسن الثاني مع مادحيه (مادحي من؟؟؟). لأن أعراف العقيدة الوهابية التي وضع أسسها عبد الله السعودي” إلى آخر النص الذي قدمناه.
عندما نسوق هذا الكلام -ونرجو أن يؤكده بعض المادحين الأحياء- فإنك تزعم أن الملك السعودي الذي لم تتفضل علينا بذكر اسمه، قد ترك المسجد النبوي للحسن الثاني ولمادحيه كي يملؤوا أرجاءه بصياح وهم يؤدون واجب الصلاة على المختار بالصيغ الواردة في مسمى “دلائل الخيرات” لظلامي هو بالتحديد: محمد بن سليمان الجزولي الذي شحن كتابه ذاك بصيغ مخترعة للصلاة على المختار صلى الله عليه وسلم عددها يتجاوز 400 صيغة!
بل اخترع أحاديث قدسية في فضل من قرأ هذه الصلوات، والناظر في “دلائله” يجد فيه من العبارات المخالفة للشرع الشيء الكثير! وفي بعضها شرك! ووحدة وجود والعياذ بالله كقوله: “اللهم جدد من صلواتك التامات، وتحياتك الزاكيات، على الذي أقمته لك ظلا! وجعلته لحوائج خلقك قبلة ومحلا! وأظهرته بصورتك! واخترته مستوى لتجليك! ومنزلا لتنفيذ أوامرك ونواهيك! في أرضك وسماواتك! وواسطة بينك وبين مكوناتك!
فهل يغادر الملك السعودي المسجد النبوي ويتركه للحسن الثاني ومادحيه لإسماع الحاضرين غير المغاربة فيه ليل نهار، ألوانا من الضلال المبين؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *