في الوقت الذي كنا نأمل فيه فتح مسالك لتدريس العلوم باللغة العربية بالتعليم الجامعي، وكذلك إخراج أكاديمية اللغة العربية إلى الوجود.. ها نحن نعيش نكوصا وردة حضارية ولغوية، تريد العودة بنا مرة أخرى إلى ما جربناه سابقا، ولم يزدنا إلا ارتباكا وتخسيرا من هيمنة اللغة الفرنسية المتخلفة عن الركب العلمي دوليا مقارنة بلغات أخرى رائدة.
1- مرَّ النظام التعليمي المغربي بعد الاستقلال (1956م) بعدة إصلاحات؛ كيف تقيمون هذه المحطات؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد، الشكر موصول إلى الإخوة العاملين في منبر السبيل على ما يبذلونه لنشر الكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق على مستوى الصحافة المكتوبة في زمن كثر فيه الكذب والاختلاق والتفاهة والمتاجرة بالعمل الإعلامي والصحفي، سائلا المولى عز وجل لكم التوفيق والسداد لتحقيق الرسالة الإعلامية النبيلة.
بداية وجوابا عن سؤالكم لا يمكن لأي منصف أن ينكر ما بذل من جهد رسمي في إصلاح المنظومة التربوية ببلادنا منذ فجر الاستقلال، وأستطيع تقسيم محطات الإصلاح إلى ثلاث محطات رئيسية :
محطة المبادئ الأربعة: وهي فترة طويلة ممتدة من 1956 إلى 2001
فقد وفقت النخبة الإصلاحية منذ فجر الاستقلال لوضع أربعة مبادئ وهي: المغربة والتعميم والتعريب والمجانية، وظلت تلك المبادئ تؤطر مختلف الإصلاحات الجزئية في قطاع التربية والتعليم مدا وجزرا، وكانت بمثابة القاطرة التي تجر طموح الفاعلين في المجال، وقد تحققت نجاحات على مستوى المغربة، وتقدم التعميم خطوات معتبرة، غير أنها واجهت عراقيل بنيوية تمثلت خصوصا في هشاشة وضع البادية المغربية حيث انقطاع الكثيرين من التلاميذ والتلميذات بعد سنوات قليلة من ولوج الدراسة، وازدادت الظاهرة في المدن أيضا بعد أن لم تعد المدرسة توصل إلى الشغل والتوظيف في قطاعات الدولة كما كان الشأن في العقود الأولى من الاستقلال.
وطرحت المجانية للنقاش بشكل محتشم وغلبت عليه الأبعاد السياسية وغابت فيه جرأة القرار وتم عمليا أمام ضعف المدرسة العمومية هروب القادرين على الأداء أو المتكلفين له إلى التعليم الخصوصي وخصوصا في المستويات الأساسية.
وأما التعريب فشكل ذروة الصراع بين الفرنكفونيين وأوفياء العربية، وأقصى ما بلغه أنصار العربية من فجر الاستقلال إلى اليوم، هو البلوغ بالتعريب إلى سلك الباكالوريا، في مقابل هيمنة الفرنسية في التعليم العالي التقني والعلمي فضلا عن القطاعات الحيوية ومعظم الإدارات العامة، واستعادة الهيمنة في التعليم الخصوصي في مستوياته الابتدائية والإعدادية.
وها نحن اليوم نعيش نكوصا وانتكاسة لهذا المبدأ بعد هذه الأنباء الأخيرة والتي نتمنى أن لا تكون صحيحة ولا جادة بخصوص المذكرة الوزارية التي توصل بها عدد من مدراء مؤسسات تعليمية للثانوي التأهيلي، والتي تدعو إلى تجريب تدريس المواد العلمية؛ الطبيعيات والفيزياء والرياضيات؛ باللغة الفرنسية في السلك التأهيلي ببعض النيابات التعليمية خلال الموسم الحالي في أفق تعميمه، وذلك في ستة عشر من المؤسسات التأهيلية بجهات المملكة.
ففي الوقت الذي كنا نأمل فيه فتح مسالك لتدريس العلوم باللغة العربية بالتعليم الجامعي، وكذلك إخراج أكاديمية اللغة العربية إلى الوجود، قلت: ها نحن نعيش نكوصا وردة حضارية ولغوية، تريد العودة بنا مرة أخرى إلى ما جربناه سابقا، ولم يزدنا إلا ارتباكا وتخسيرا من هيمنة اللغة الفرنسية المتخلفة عن الركب العلمي دوليا مقارنة بلغات أخرى رائدة، وعوض أن ننهض بلغتنا العظيمة والشريفة، ونبوئها المكانة اللائقة بها، ونهيئ لها شروط النجاح، نعود إلى أحضان “ماما فرنسا”، والتي لن تغني عنا لغتها شيئا إذا نحن تجاوزنا حدود فرنسا وبعض الدويلات الفرنكفونية، وربما حتى لشربة ماء أو تناول كسرة خبز.
والحال أننا إذا كان ولابد من تلقيح واستفادة من خير ما عند الآخرين، وجب أن نعتمد لغة أكثر تقدما وانتشارا، فنختار مثلا اللغة الانجليزية في التفاعل مع الجديد، وترجمته ريثما تأخذ العربية الريادة بريادة أهلها، وقيامهم من سباتهم الطويل، ذلك أن تجارب الشعوب تؤكد أن النهضة الحقيقة لا يمكن أن تكون بلغة مستوردة، ولا يمكن أن تحدث على الوجه المطلوب إلا بلغة القوم، وذلك حتى ولو كانت محدودة الانتشار، كالعبرية والكورية والفيتنامية والهولندية واليابانية وغيرها، فكيف بلغة القرآن التي اختارها رب العزة لتكون وعاء لكلامه المعجز ودينه الذي أرسله للناس كافة.
محطة ميثاق التربية والتكوين:2001-2010
جاء ميثاق التربية والتكوين الذي أشرف عليه المستشار الملكي مزيان بلفقيه رحمه الله ليضع حدا لتلك الأطر الأربعة والمبادئ المحركة (أي: المغربة والتعميم والتعريب والمجانية)، ويرسم خطوطا جديدة ويحاول القفز على مشاكل لم يحسم فيها بعد كالتعريب. وقد تم فيه إعلان العشرية 2001-2010 عشرية وطنية للتربية والتكوين. كما أعلن فيها قطاع التربية والتكوين أول أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية.
هذا الميثاق عرف نوعا من التوافق بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية المعترف بها رسميا، جاء يضع المبادئ الأساسية التي تضم المرتكزات الثابتة لنظام التربية والتكوين والغايات الكبرى المتوخاة منه، وحقوق وواجبات كل الشركاء، والتعبئة الوطنية المطلوبة لإنجاح الإصلاح.
وقد سطر ستة مجالات للتجديد، موزعة على تسعة عشر دعامة للتغيير، وهذه المجالات هي: نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي؛ إعادة التنظيم البيداغوجي؛ توخي الرفع من جودة التربية والتكوين؛ العناية بالموارد البشرية؛ اقترحات تهم التسيير والتدبير؛ والشراكة والتمويل.
وجاء في ديباجة الميثاق أنه “تم الحرص في صياغة المبادئ الأساسية للإصلاح وتجديد مجالاته، على توخي الدقة والوضوح قدر المستطاع، مع الاستحضار الدائم لضرورة التوفيق بين ما هو مرغوب فيه وما هو ممكن التطبيق. ومن ثم جاءت دعامات التغيير في صيغة مقترحات عملية، مقرونة كلما أمكن بسبل تطبيقها وآجاله”. ومن المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على الميثاق في جانبه النظري من وجهة نظري:
– قصور الوسائل عن المقاصد المعلنة.
– طغيان الجانب المادي والهاجس الاقتصادي.
– الحضور الباهت للهوية الإسلامية على مستوى الشكل وإهمالها على مستوى المقتضيات العملية.
– إطراء اللغة العربية على مستوى العبارات وإضعافها على مستوى الفعل ووسائل التنزيل.
أما على مستوى تطبيق الميثاق فالأمر أشد وأخطر، حيث لم تحترم الآجال المحددة فيه، ولم تهيأ الموارد البشرية لحسن تنزيله، وأكاديمية اللغة العربية المسطرة فيه لم تر النور بعد والعشرية قد انتهت. وعلى مستوى الواقع لا تزال نسبة الاكتظاظ مرتفعة في الفصول الدراسية أي ما يفوق 41 تلميذا في المعدل، وإلا فهناك أقسام كثيرة تفوق هذه النسبة بكثير، ونسبة الانقطاع مهولة وخصوصا في المستوى الابتدائي (تقدر الأعداد بحوالي 400.000 سنة 2007) مما يعني استمرار معضلة الأمية لأجيال قادمة، كما ويعاني القطاع من خصاص كبير في الموارد البشرية تقدر بالآلاف في هيأة التدريس والتأطير والطاقم الإداري والأعوان.
والأخطر أن المستوى التعليمي يتدنى باستمرار، ولا شك أن الأزمة وباعتراف المسؤولين في الدوائر العليا بنيوية ومعقدة تتداخل فيها جوانب القصور المركزية والجهوية والمحلية، ووجود عدد كبير ممن لا يحسنون أداء مهامهم ومسؤولياتهم. ومما يزيد من استفحال الوضعية في تنزيل الميثاق وتنفيذ بنود الإصلاح، كونه يتعامل معه بتأويل خاص ينسجم مع الرؤية الحزبية التي تتولى تدبير القطاع، فإذا جاء فيه ما ينسجم ورؤيتهم استندوا إليه، وإن كان غير ذلك وجاءوا بما يخالفه ويناقضه قالوا إنه ليس كتابا مقدسا إنما هو للاستئناس، فتغيب الجدية في التعامل معه، ويغيب التوافق الذي كان حاضرا في وضعه وتأسيسه.
وفي مجال الهوية الإسلامية واللغة العربية كان من سوء حظ المغرب تعاقب الأطراف العلمانية واليسارية -في الأغلب الأعم- على التعليم من زمن غير يسير، الأمر الذي جعل قصارى جهود أنصار الأصالة والهوية هو الحفاظ على بعض المواقع وصد الهجمات المتوالية على مادة التربية الإسلامية والعربية عوض المساهمة الفعالة في البناء.
محطة البرنامج الاستعجالي وما بعده (2009 إلى الآن)
ولما قاربت عشرية ميثاق التربية والتكوين على الانتهاء ومع صدور التقرير الوطني الأول حول حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها الذي أصدر سنة 2008 من طرف المجلس الأعلى للتعليم، لوحظ بعد الشقة بين ما يطمح إليه الميثاق وبين وضع التعليم ببلادنا، وتم التنادي إلى وضع برنامج استعجالي من أجل تسريع وثيرة إصلاح منظومة التربية والتكوين، قيل عنه في وقته إنه طموح ومجدد يمتد على مدى أربع سنوات 2009-2012.
وحدد المبدأ الجوهري لهذا البرنامج في جعل المتعلم في قلب منظومة التربية والتكوين مع تسخير باقي الدعامات الأخرى لخدمته وتم وضع خطة عمل تم تركيزها في أربعة أقطاب رئيسية: قطب الحكامة، وقطب التعميم، وقطب الموارد البشرية، والقطب البيداغوجي، وتتوخى تلك الأقطاب تحقيق أهداف تدخل ضمن أربعة مجالات أولية:
يهم الأول التحقيق الفعلي لإلزامية التمدرس إلى غاية 15 سنة.
ويهم الثاني حفز روح المبادرة والتفوق في المؤسسات الثانوية وفي الجامعة.
ويهم الثالث مواجهة الإشكالات الأفقية للمنظومة التربوية.
ويهم الرابع توفير وسائل النجاح.
ووضعت لهذه الغاية وبقصد إنجاح البرنامج الاستعجالي (25 مشروعا و129 إجراءا و721 مؤشرا للتتبع) ورصدت للبرنامج ميزانية ضخمة بلغت 33397 مليونا من الدراهم.
وبخصوص البرنامج الحكومي الحالي لم يبتعد عن البرنامج الاستعجالي كثيرا وركز على ثلاثة أسس: إعادة الثقة في المدرسة العمومية، استعادة ريادة الجامعة المغربية في التكوين والإشعاع والبحث العلمي، الرفع من وتيرة برنامج محاربة الأمية.
وإذا فصلنا قليلا في الأساس الأول على سبيل المثال نجد من الإجراءات: جعل المؤسسة التعليمية في صلب الاهتمام بالنظام التربوي (بدعم استقلالية التدبير، والتقييم المنتظم وربط المسؤولية بالمحاسبة، والانفتاح المؤسساتي، والتصدي للظواهر المشينة كالمخدرات والتحرش الجنسي..)، والعناية بحكامة قطاع التربية (ويقصد بها: تعميم التمدرس، محاربة الهدر والتكرار، تأهيل المؤسسات، تطوير النموذج البيداغوجي، تحسين جودة الخدمات، رفع مستوى التأطير) وكذا الارتقاء بمهام المدرسة الوطنية وأدوارها (من خلال تتبع ومراجعة المناهج بانتظام، ترسيخ مبادئ ومقومات التربية على منظومة القيم، تقوية وتحديث تدريس اللغات، تعزيز ومضاعفة “برنامج تيسير”، الاهتمام بالأقسام التحضيرية، تطوير التعليم العتيق والأصيل، ضمان جودة القطاع الخصوصي عبر دفاتر تحملات واستقلاله بموارده البشرية ليكون مجالا للتشغيل)، ويسجل للوزارة الوصية من الناحية العملية تحسن في الإجراءات المصاحبة لامتحان الباكالوريا، الكشف عن الموظفين “الأشباح” ومراسلتهم لتسوية وضعياتهم، تراجع الإضرابات بشكل كبير، الإعلان عن وضعية السكن الوظيفي ولوائح المحتلين له بغير حق، التقدم في معالجة الحركة الانتقالية.. كما ويؤخذ عليها توقيف بداغوجيا الإدماج من غير مشاورات موسعة ولا إعطاء بدائل واضحة، وتجميد مسلسل إعادة النظر في المناهج والمقررات..