قد يتساءل بعض من يتلوا القرآن عن سبب تخصيص سورة كاملة تقدح وترد على أبي لهب، وزوجته العوراء أم جميل حمالة الحطب، وقد يعظم تساؤله بعد أن ذكرهما الله عز وجل بالاسم، وخص أبا لهب بثلاث آيات، وزوجته بآيتين.
وسورة المسد هي معجزة بحد ذاتها، إذ أنها توعدت أبا لهب وزوجته بعذاب نار جهنم خالدين فيها أبداً، فلو أسلم أبو لهب أو ادعى الإسلام لكان نسف مصداقية القرآن من أساسها، فقد نزلت هذه السورة قبل وفاة أبي لهب بعشر سنوات، لكن ختم الله على قلبه لا كفر يخرج منه ولا إيمان يدخل إليه.
لم يكن أبو لهب وامرأته ممن عذب المسلمين بالسياط والنار، وبالضرب والقتل، ولا مارسا أي صنف من أصناف العذاب المادي الجسدي، بل كان أبو لهب وامرأته يمثلان قطبا الجهاز الإعلامي في عصر الجاهلية.
فمن هو أبو لهب الذي استحق هذا الذكر الشنيع وامرأته؟
أبو لهب هو عم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وكنيته أبو عتبة، وهو الأخ غير الشقيق لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عرف عبد العزى بكنية أبي عتبة؛ نسبة لأبنه الأكبر عتبة بن عبد العزى بن عبد المطلب، ولكنه اشتهر بأبي لهب، لقـَّبه إياه أبو عبد المطلب لوسامته وإشراق وجهه، ولما هلك أبو لهب بعد وقعة بدر بسبع ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى “العدسة” وبقي ثلاثة أيام حتى أنتن، فلما خافوا العار حفروا له حفرة ودفعوه إِليها بعود حتى وقع فيها ثم قذفوه بالحجارة حتى واروه، وامرأته هي أم جميل العوراء بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهي أخت أبي سفيان بن حرب.
عرف أبو لهب وامرأته بلمزهما، وهمزما، ونميمتهما، والتشهير بالإسلام، ونبي المسلمين صلى الله عليم وسلم والمسلمين، والتفنن في صور الاستهزاء المختلفة، كإعلاميين محترفين في الزمن الجاهلي.
ومن صور ممارساتهما الإعلامية الشنيعة ما روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) الشعراء: 214 صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: “أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟” قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا. قَالَ: “فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ”، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) المسد:1-2.
فابن عباس قال: “فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ”؛ على الرغم من أن أبا لهب من قريش، ولكنه خصه بالذكر لعلمه بأن أبا لهب له قدرة مؤثرة، ووجهة نظر إعلامية تأثر على الرأي العام الجاهلي.
وحكا طﺎرق ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﷲ اﻟﻤﺤﺎرﺑﻲ قال: إﻧﻲ ﺑُِﺴﻮِق ذي اﻟﻤﺠﺎز إذ أﻧﺎ ﺑﺈﻧﺴﺎن ﯾﻘﻮل: ﯾﺄﯾﮭﺎ اﻟﻨﺎس ﻗﻮﻟﻮا: ﻻ إﻟﮫ إﻻ ﷲ؛ ﺗﻔﻠﺤﻮا، وإذا رﺟﻞ ﺧﻠﻔﮫ ﯾﺮﻣﯿﮫ ﻗﺪ أْدَﻣﻰ ﺳﺎﻗﯿﮫ وﻋﺮﻗﻮﺑﯿﮫ، وﯾﻘﻮل: ﯾﺄﯾﮭﺎ اﻟﻨﺎس إﻧﮫ ﻛﺬاب ﻓﻼ ﺗَُﺼﱢﺪﻗﻮه، ﻓﻘﻠﺖ: ﻣﻦ ھﺬا؟ ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻣﺤﻤﺪَ زَﻋﻢ أﻧﮫ ﻧﺒﻲ، وھﺬا ﻋﻤﮫ أﺑﻮ ﻟﮭﺐ ﯾَﺰﻋﻢ أﻧﮫ ﻛﺬاب!
ولأجل هذا الدور الإعلامي الخطير الذي كان يقوم به أبو لهب استحق هذا الذكر الشنيع في هذه السورة، وهو ذكرٌ لم ينله حتى صناديد وشياطين قريش الذين مارسوا التعذيب المادي على المسلمين.
وأما امرأته -وما أدراك ما امرأته- مساعدته في الإخراج، وكاتبة سناريوهاته، ومؤلفة أكذوباته، وملهمته بل ملهمة قريش، الإعلامية الخطيرة، كارهة الإسلام والمسلمين، المتفننة في إذاية نبي الإسلام، فلم تكتف بأمر ولديها بمفارقة بنتي النبي صلى الله عليه وسلم، بل تكبدت عناء القيام بدورها الإعلامي الفاجر، فقد روى الحاكم من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال :قالت امرأة أبي لهب لما مكث النبي صلى الله عليه وسلم أياما لم ينزل عليه الوحي: “يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد قلاك، فنزلت: والضحى”.
وأطلقت بعبقرية الإعلام الساقط على الرسول صلى الله عليه وسلم اسمًا ساخرًا، فأسمته “مُذَمَّمًا” أي عكس “محمد”، وهو من الذم وليس الحمد..!
وصاغت شعرًا تهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، فقالت: “مُذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا”، وﻗﺪ ﺻَﺮف اﷲ تعالى ﻋﻦ ﻧﺒﯿﱢﮫ ﺻﻠﻰ ﷲ ﻋﻠﯿﮫ وﺳﻠﻢ ﺳّﺐ ﺣﻤﺎﻟﺔ اﻟﺤﻄﺐ!
ﻗﺎل رﺳﻮل ﷲ ﺻﻠﻰ ﷲ ﻋﻠﯿﮫ وﺳﻠﻢ: أﻻ ﺗﻌﺠﺒﻮن ﻛﯿﻒ ﯾَﺼﺮف اﷲَ ﻋﻨﱢﻲ ﺷﺘﻢ ﻗﺮﯾﺶ وﻟﻌﻨﮭﻢ؟ ﯾﺸﺘﻤﻮنُ ﻣَﺬﱠﻣﻤﺎ، وﯾﻠﻌﻨﻮنُ ﻣَﺬﱠﻣﻤﺎ، وأﻧﺎ ﻣﺤﻤﺪ. رواه اﻟﺒﺨﺎري.
لم تكن هذه المواقف من أبي لهب وامرأته مواقف عابرة في حياتهما، ولكنها عقيدة راسخة لمحاربة الحق وأهله، وحملة ﻤﺴﻌﻮرة ﺿّﺪ المتدينين بدﯾﻦ اﻹﺳﻼم؛ يدفعهما إليها احترافهما للإعلام الفاسد..
إن قصة أبي لهب وامرأته، قصة إعلاميين أنفقا مالهما في الصد عن دين الله وفي تشويه صورة الإسلام، كانا يمثلان إعلاما فاسدا فاجرا يحترف قلب الحقائق، إعلاما جعل الصادق كاذبا، والمسلم صابئا، والأمين خائنا، والعاقل مجنونا، إعلام استحق رواده الذل والمهانة مادام القرآن يتلى إلى يوم الدين.
وفي هذين الإعلاميين عبرة لإعلاميي زمننا هذا، الذين احترفوا قلب الحقائق، وتزوير التاريخ، وتغيير الجغرافيا، والتلاعب بالعقول. إعلام يتحكم في الأذهان، ويسحر أعين الناس وعقولهم، فيصور الحقائق مقلوبة مرتكسة، إعلام يدعم الديكتاتورية، ويبرر مواقفها، ويقمع الشعوب، ويزيد من معاناتها…
وقد بين الله تعالى في سورة المسد عاقبة الإعلاميين الفجار، الصادين عن الحق؛ فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ولتكن لهم في أبي لهب وامرأته عبرة، فإن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل.