من الظلمات إلى النور (1)
نعرض في هذه السلسلة قصصا مؤثرة لأناس عاشوا فترة من أعمارهم بعيدين عن ربهم، تائهين عن طريق الهدى، تتقاذفهم أمواج متلاطمة من الشهوات والشبهات، قبل أن يتسلل نور الإيمان إلى قلوبهم، ليقلب بؤسهم نعيما، وشقاءهم سعادة..
إنه نور توحيد رب العالمين، إنه قوت القلوب وغذاء الأرواح وبهجة النفوس
قبل أيام توفي نيلسون مانديلا، الزعيم الإفريقي الذي أريدَ له أن يكون قدوة في النضال والثورة على الاستعباد، رحل إذن الرجل الذي يعتبره كثيرون رمزا عالميا للحرية ومناهضة التمييز العنصري، لكن موته خلّف كلاما كثيرا، وعلامات استفهام أكثر.
إذ في أماكن ليست ببعيدة عن مانديلا، بل في قارته السوداء نفسها، كانت الحرية تصادر والإنسان يهان، وملايين يقتلون في الكونغو ورواندا بتآمر غربي وصمت إقليمي، وشعوب تتعطش للتحرر من النظام الدولي في نيجيريا والصومال ومالي فتهاجمها الأنظمة الامبريالية بالتعاون مع صنيعتها الإفريقية، فماذا كان موقف مانديلا من هذا كله؟؟
هل مانديلا هو الجدير بأن يكون قدوة عالمية للحرية والثورة على الظلم؟
وأين مانديلا من مقولته الشهيرة «إن الحرية لا تقبل التجزئة»؟
وهل التزم بمواقفه النضالية كقيم عالمية، أم فقط ضمن حدود بلده التي رسمها المحتل؟
فعلى الأقل حتى يستحق مانديلا أن يكون رمزا عالميا للحرية ومناهضة الظلم والتمييز العنصري، وحتى يكون منسجما مع شعاراته فلا يتوقع منه أن يتقبل الأوسمة ممن يستعبدون الشعوب حول العالم، فضلا عن أبناء قارته، لأن وسام الحرية الذي يضعه الظالم على صدره يعني أنه تصالح مع الظالم، ورضي منه بفتات حرية رسمها له، وقبل ضمنيا أن يمارس عربدته العالمية بعد ذلك.
مانديلا حصل على أوسمة الحرية والسلام من تجار الرق والحروب، حصل على جائزة لينين للسلام عام 1990 من الاتحاد السوفياتي، في الوقت الذي كانت فيه روسيا قد انتهت من قتل مليون إنسان في أفغانستان وإعاقة مليونين آخرين، قبل أن تتوجه للقتل والاغتصاب في الشيشان.
ثم حصل على جائزة أخرى من حكومة الهند في نفس العام (1990)، في الوقت الذي كانت فيه الهند تقتل وتغتصب وتحرق المسلمين في كشمير وغوجارات.
وحصل على جائزة أتاتورك للسلام من تركيا عام 1999، أيام الحكم العسكري المصادر لحريات المسلمين.
وحصل على ميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية عام 2002، من مجرم الحرب بوش الصغير، في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تقصف وتبيد الشعب الأفغاني الفقير المعدم، وتدعم وتبارك مجازر اليهود في جنين.
فهل تحرر مانديلا فعليا من فلك النظام الدولي؟؟
وهل ثار على الامبريالية والرأسمالية والاستعباد وكل الطغيان الذي يمارسه الغرب بحق شعوب العالم، لا سيما المسلمين؟؟
أم أن نضاله وكفاحه خاص ببلده وفق المعايير التي حددتها له الامبريالية الغربية، وألزمته بها مقابل تقليده أوسمة ونياشين عالمية؟
هل الحرية تقبل التجزئة في منظور من يسوق له على أنه أشهر مدافع عن الحرية وأشرس مناهض للاستعباد والظلم؟
هل الكيل بمكيالين في وزن حق الشعوب في التحرر والاستقلال سلوك نضالي مشرف، أم خزي وعار على جبين من ينتهجه؟
فلا عجب اليوم حين نرى ونسمع أن أمريكا راعية إرهاب الشعوب، ومعها جوقة النفاق في الشرق والغرب والوسط، يترحمون كلهم على نيلسون مانديلا رمز حريتهم البائسة، ويذرفون دموع التماسيح على رحيله فجأة، في حين تكتظ سجونهم المعلنة بالمظلومين، في غوانتنامو وأبو غريب وباغرام، وفي تلك السرية فوق الأرض وتحتها في مواقع تنكشف يوما بعد آخر مسفرة عن مآسي وأهوال يعانيها أحرار أعلنوا الولاء لأمتهم ووطنهم، ورفضوا الإذعان لسياسة القطب الواحد.
فما الفرق عند مثقفي المارينز المتأسلمين الذين صدعوا رؤوسنا هذه الأيام برحيل مناضلهم الفريد، ما الفرق عندهم بين نيلسون مانديلا وبين أولئك الشرفاء الذين تسومهم أمريكا وحلفاؤها سوء العذاب في معتقلاتها؟؟
طبعا، نحن ندرك الفرق جيدا، فمانديلا كان يؤمن بالقيم والحقوق وفق ما سطرته الماسونية في منظومتها الكونية التقدمية المنفتحة، أما أتباع محمد عليه الصلاة والسلام فإيمانهم بشرائع دين التوحيد، ووضوح مواقفهم، هو ما جر عليهم الويلات والمآسي، وذلك جزاء كل من تسول له نفسه معارضة المشروع الإمبريالي الذي تحمل لواءه نفس تلك الدول التي وشحت نيلسون مانديلا بأوسمة السلام والحرية، نفس الدول التي رتبت ورشحت ثم منحت شمعون بيريز جائزة نوبل للسلام، وهو الذي تلطخت يداه بدماء وأشلاء أطفال ونساء فلسطين، حين أصدر بصفته رئيس وزراء الكيان اللقيط (سنة 1996) تعليمات لسلاح الجو الصهيوني بارتكاب مجزرة قانا بحق اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، ثم لم تحرك منظمة الأمم المتصهينة ساكنا، ولم يزد -كالعادة- رد فعل مجلس أمنها ورعبنا على الإدانة والشجب والاستنكار، بأشد العبارات طبعا، مع أن المخيم المقصوف تابع للأمم المتحدة، حقا هي متحدة ومتفقة، لكن على ذبحنا.
لابد إذن من استحضار هذه القصص الدموية في تاريخنا المعاصر حتى نفهم كل هذه «الهيصة» -بتعبير إخواننا المصريين- لرحيل «رمز الحرية وأيقونة المقاومة السلمية في العالم».
إنهم لا يقصدون سلامنا ولا حريتنا، فلهم سلامهم وحريتهم بكل معانيهما، وهي حكر عليهم محرمة علينا، ويمكننا حسب منظومة قيمهم الكونية الظالمة أن ننعم بسلام بنكهة دماء أطفال فلسطين والعراق وسورية، وأن نعيش حرية بطعم أشلاء أبناء الشيشان ومالي وبورما.
رحل مانديلا، فكثر المتباكون هنا وهناك، فأما أقاربه فحق لهم البكاء، وأما أدعياء الحرية والسلام فمنافقون تذرف أعينهم دموع التماسيح، وتخفي صدورهم كيد الثعالب.