شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

والمورد المستعذب الفرات ***ومـــن أجــلـهـــا الـمـوافــقـــات
لشيخـنـا العلاّمة المـراقــب **ذاك أبـو إسـحاق نجل الشاطبـي
فهو كتـاب حسـن المقاصـد **مــا بـعـده مـن غـايــة لـقـاصــد
وكـان قـد سمـاه بـالعـنـوان **واختار من رؤيا ذا الاسم الثاني
»و» هو كذلك «المورد» -بفتح الميم وكسر الراء، بينهما واو ساكنة- وهو المنهل: العين التي يشرب منها ويستقى «المستعذب» الذي يعد عذبا حلوا، «الفرات» -بضم الفاء- الأشد عذوبة، وفي قوله «المورد المستعذب الفرات» التشبيه البليغ، «ومن أجلها» أي أعظمها قدرا كتاب «الموافقات».
وهو «لشيخنا العلاّمة» -التاء فيه للمبالغة- «المراقب» -بضم الميم- القائم بحقوق الله -تعالى- سرا وجهرا، «ذاك» هو «أبو اسحاق» إبراهيم، «نجل» أي ولد موسى الشاطبي، المتوفى سنة سبعمائة وتسعين من الهجرة.
«فهو كتاب حسن» البيان والإيضاح والإظهار لعلم «المقاصد» أي الغايات والحكم والأسرار التشريعية المتعلقة بالأحكام، وقد بلغ في ذلك المنتهى، فـ«ما بعده» فيما تضمنه «من» ذلك «غاية» تكون مطمعا «لقاصد» للعلم الشرعي الطالب له؛ وقد يكون معنى «لقاصد» أي طالب علم المقاصد، وهذا وإن كان احتمالا بعيدا فإنه غير ساقط بالكلية.
«وكان» الشاطبي «قد سماه» أي سمى كتاب الموافقات هذا «بالعنوان» يعني «عنوان التعريف بأسرار التكليف» «و» بعد ذلك ترك تسميته بهذا «واختار من» أجل «رؤيا» رآها «ذا الاسم الثاني» أي الموافقات.
وفي ذلك قال رحمه الله تعالى: «ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفة سميته بـ«عنوان التعريف بأسرار التكليف»، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محلا للرحال ومناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه؛ فقال لي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب ألفتَه، فسألتك عنه فأخبرتني أنه «كتاب الموافقات»، -قال- فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة.
قلتُ له: الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب، واخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب، فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء؛ فعجب الشيخ من غرابة هذا الإتقان، كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق»(*).
وقـد سـمـعـت بعـضـه لديـه **ومــنــه فــي تـــرددي إلـيـــه
لاكـن لـم يـكـن له اختلافـي إ***لا يسيـر القـدر غـيـر شــاف
لأن ثنى التقصير من عناني **وصـدنـي عـن قربـه زمـانـي
حتى غدت حياتـه منقضيــة **في عام تسعيـن إلـى سبعميـة
والآن مذ نبذت عني شغلـي **وصار نيل العلم أقصى أملي
»و» كنت «قد سمعت بعضه» وأنا «لديه» أي عنده، «و» قد سمعته «منه في» الأوقات التي كان «ترددي إليه» فيها.
«لاكن» ذلك لم يطل إذ «لم يكن له» أي إليه «اختلافي» وترددي «إلا» زمنا «يسير» أي قليل «القدر غير شاف» لقلة الطلب والرغبة في العلم بمكونات هذا الكتاب ومتضمناته الجليلة القدر.
وقصر ذلك الزمان قد حصل «لـ» أجل «أن ثنى» يعني كفني وصرفني «التقصير» أي التواني «من عناني» يعني جموحي ورغبتي، «وصدني» أي منعني «عن قربه» ومجاورته أحوال «زماني» وتقلباته.
«حتى غدت حياته منقضية» رحمه الله تعالى، «في عام تسعين» يزاد «إلى سبعمائة» من الهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن من شعبان من السنة المذكورة.
«والآن» بل «مذ نبذت» أي طرحت «عني شغلي» -بضم الغين المعجمة-، «وصار نيل» أي إدراك وتحصيل «العلم أقصى أملي» أي رجائي.
جددت عهدي باجتنـاء زهـره **ورضت فكري في اقتفـا أثـره
فجُلْـت منـه فـي مــدى بـيــان **بل روضة من ثمرها المعانـي
فـنـونهـا تـشـعـبـت أفـنـانـهـــا **واختـلفـت بـأكـلهـا صـنوانهــا
فمـورد الصـادي بهـا رحيــق **ومـجـتــلاه زهــــر أنـــيـــــق
»جددت عهدي» واشتغالي «باجتناء» واقتطاف «زهره» جمع زهرة -يعني فوائده-، شَبّه ما يستفيده منه من الفوائد بالزهر المأخوذ من النبات بجامع الحسن والبهاء، ثم استعار لفظ المشبه به، وهو الزهر، للمشبه، وهو الفوائد، على سبيل الاستعارة التصريحية؛ «ورضت» أي ذللت ووطأت «فكري» وحالة نظري في «اقتفاء» أي اتباع «أثره» وما سنه من سنن نظرية وطرق فكرية قد يهتدي بها إلى قطف أثمار فقهية وعلمية أخرى دقيقة مختلفة.
«فجلت» أي طفت «منه» يعني فيه -في هذا الكتاب-، وأنا في فهمه والعلم بمضامينه «في مدى» أي غاية ومنتهى «بيان» ووضوح، «بل» جلت فيه وأنا منه في «روضة» أي بستان حسن «من ثمرها» وغلاتها «المعاني».
فنونها أي أنواعها «تشعبت» تفرقت «أفنانها» أغصانها، «واختلفت بأكلها» أي في أكلها -بضم الهمزة- أي طعمها -بفتح الطاء- وذوقها «صنوانها»، والصنوان -بكسر الصاد، وحُكِي فيه الضم- ما له عرق واحد من نخلتين أو ثلاث أو أكثر.
«فمورد» أي مشرب «الصادي» أي العطشان «بها» أي بتلك الروضة «رحيق» أي شراب صاف، «ومجتلاه» أي منظره «زهر» -بفتح الهاء- أي النبات، أو جمع زهرة، فيكون محركا للضرورة، «أنيق» -بفتح الهمزة- وزن عظيم، أي معجب حسنه؛ وتشبيهه الكتاب بالروضة يقرر على سبيل الاستعارة التصريحية.
لاكـن رأيت مرتقـاه صعبـا ** ومنتـداه في المـقـال رحـبـا
فمالت النفس إلـى تحريـره **في رجز قصدا إلى تيسيره
»لاكنـ»ني «رأيت» عن دراية واطلاع «مرتقاه» -بضم الميم، مصدر ميمي- يعني ارتقاءه والصعود عليه «صعبا» أي أمرا صعبا شاقا، «و» كذلك رأيت «منتداه» -بضم الميم وسكون النون- أي ناديه «في» الحديث و «المقال» منتدى «رحبا» -بضم الراء وسكون الحاء- واسعا، شبّه الكتاب بجبل عال جدا، لكنه أضمره ورمز له بشيء من لوازمه وهو «المرتقى الصعب» على سبيل الاستعارة المكنية، والقرينة إثبات صعوبة الصعود للكتاب، كما شبهه بقبيلة أهلها ذوو نظر واسع عميق، وبيان محيط شامل فيما هم متناقشون، لكنه أضمره ورمز له بشيء من لوازمه وهو «المنتدى الرحب المقال» على طريقة الاستعارة المكنية، والقرينة إثبات المنتدى له، وقد يكون شبهه بأمر عظيم الكلام فيه واسع، والمقال فيه رحب، على طريقة الاستعارة المذكورة.
«فمالت النفس» لأجل ذلك وتاقت «إلى تحريره» من هذا الذي يتصف به من الصعوبة والإطناب الزائد فيه على المطلوب -أحيانا- «في» نظم من بحر الـ«رجز»، وهو بحر من بحور الشعر معروف، يكون كل مصراع منه مفردا، وتسمى القصائد المنظومة فيه أراجيز، واحدتها أرجوزة، وإنما مالت نفسي إلى هذا «قصدا» مني «إلى تيسيره» وتسهيله للحفظ والفهم على طلبة العلم.
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)- الموافقات [ج. 1 – ص. 18].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *