الإنسان بفطرته يحب الظهور وهو يسعى بغريزته إلى كسب درجة من الاحترام والتقدير بين الناس، ويتطلع إلى ذلك عن طريق مجموعة من الوسائل والطرق، كإظهار نوع من الوقار والمكانة الرفيعة سواء باللباس أو الخطابة أو المال أو النسب أو غيره، إلا أن توظيف الدين والتمظهر به أمام الناس لكسب ثقتهم واحترامهم دون إخلاصه لله تعالى، فهذا يعد نوعا من أنواع الشرك به عز وجل وهو الرياء الذي يعد آفة مهلكة وكبيرة من الكبائر.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغرُ الرياءُ، يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ إذا جزى الناس بأعمالِهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندَهم جزاءٌ” صحيح الجامع:1555.
فعقوبة الشرك عند الله عظيمة، يقول الله تعالى: “فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ” الماعون: 4-7.
والرياء في اللغة يشمل معنى إظهار الشخص خلاف ما يضمر، فقد جاء في لسان العرب: “وراءيت الرجل مرآة ورياء: أريته أني على خلاف ما أنا عليه. وفي التنزيل: “بَطَرًا وَرِيَاءَ النَّاس”، وفيه: الذين هم يراؤون، يعني المنافقين أي إذا صلى المؤمنون صلوا معهم يراؤونهم أنهم على ما هم عليه. وفلان مراء وقوم مراؤون، والاسم الرياء. يقال: فعل ذلك رياء وسمعة..” اللسان: 13/296.
ويتجلى الرياء في:
إظهار المرائي حسن عبادته أمام الخلق، بالتصدق وإشهار الصدقة وانتظار المدح والثناء من الناس أو الظهور بها في وسائل الإعلام، وأحيانا المن بها على المستفيدين منها بقوله: “لقد أعطيتك وأحسنت إليك فلا تنس فضلي عليك ومعروفي إليك..”، أو يعطي ليأخذ مقابلا على ذلك قد يكون فيه إذلالا وإهانة واستغلالا للمُعطى له، كتقييده بمعروف أو إلزامه بالخضوع والمسكنة لإشباع أنانيته وتعاليه أمام الناس، يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ” البقرة: 264.
وفي الصلاة، فتجده يحرص على إتقانها وإتمام ركوعها وسجودها وإظهار مظاهر التوقير والخشوع، عندما يشعر بتتبع الناس له ونظرهم إليه، وحينما يصلي منفردا في بيته تجده ينقر الصلاة نقرا بلا خشوع ولا يقوم إليها إلا متثاقلا فيجعل الله عز وجل أهون رقيب عليه.
فعن أبي سعيد الخدري قال: “خرجَ علَينا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ نتذاكرُ المسيحَ الدَّجَّالَ فقالَ: ألا أخبرُكُم بما هو أخوفُ علَيكم عندي منَ المسيحِ الدَّجَّالِ؟ فقُلنا: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، فقالَ: الشِّركُ الخفيُّ؛ أن يقومَ الرَّجلُ فيصلِّي صلاتَهُ لما يرَى من نظرِ رجلٍ” الترغيب والترهيب:1/52.
وفي العلم تجده يجتهد في النصح والإرشاد والوعظ أمام العباد، ويلقي خطبا تهتز لها المنابر وترتعد لها القلوب، مستشهدا بآيات بينات وبما صح من أحاديث، وفي خلوته يخالف ما جاء به من ذكر وتذكير، وإنما يريد بذلك أن يقال عنه أنه عالم وأنه حافظ، وهو أبعد ما يكون عن الالتزام بمغزى علمه وتمثل غاية حفظه، فيدخل بذلك فيمن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أولَ مَن تُسعَّرُ بهم النارُ ثلاثةٌ: منهم: الذي طلب العلمَ وقرأ القرآنَ لغيرِ اللهِ ليقالَ: هو عالمٌ، ولِيقالَ له: قارئٌ”.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يُجاءُ بالرَّجلِ يومَ القيامةِ، فيُلْقى في النَّارِ، فتَنْدلِقُ أقْتابُه، فيدُورُ بها كما يدورُ الِحمارُ بِرحاهُ، فتجتمِعُ أهلُ النَّارِ عليِه، فيقولُون: يا فلانُ ما شأنُك؟ ألستَ كُنتَ تأمرُ بالمعروفِ، وتَنْهى عن المُنكرِ؟ فيقولُ: كنتُ آمرُكُم بالمعروفِ ولا آتِيِه، وأنهاكُم عن الشَّرِّ وآتِيِه” صحيح الترغيب:124.
والرياء ضرب من ضروب النفاق، يقول الله تعالى: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُو خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا” النساء: 142، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من علاماتِ المنافقِ ثلاثةٌ: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان” مسلم:59.
وهو بذلك يتضمن:
الكذب المخالف للصدق: فالمرائي يظهر الطاعة والإخلاص ويضمر الخداع والنفاق، فعبادته مزيفة وعمله باطل، لأنه يُخفي خلاف ما يُبدي ولا يَصدق في نيته ولا في عمله وقوله، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، ففي الحديث: “إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: أنا خيرُ شريكٍ فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي. يأيُّها الناسُ أخلصوا أعمالَكم فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يقبلُ من الأعمالِ إلا ما خَلص له” المتجر الرابح: 343. إسناده لا بأس به.
إخلاف الوعد المنافي للالتزام: أخذ الله عز وجل الميثاق والوعد من سلالة آدم في عالم الذر وأشهدهم على أنفسهم على الاعتراف بربوبيته، فأقروا الشهادة، يقول الحق سبحانه: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ” الأعراف: 172، والمرائي يخالف هذا العهد بإشراكه أحدا غير الله عز وجل في العبادة وهذا يتنافى مع الالتزام بالوعد.
الخيانة المناقضة للأمانة: خلق الله تعالى الإنسان وحمله الأمانة واستخلفه في الأرض لإعمارها وإقامة شرع الله فيها والمرائي يدرك ذلك ويصرفه لغير الله ويبتغي به رضا الخلق فقط، يقول الله عز وجل: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” الأحزاب:72.
فليلجم العبد نفسه وليراقب الله تعالى في عبادته وليكن شديد المحاسبة للنفس ومراجعة أعمالها قبل أن يتسلل إليها الرياء فيفسدها، فإنه أخفى من دبيب النمل، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا أيها الناسُ! اتَّقوا هذا الشِّركَ؛ فإنه أخفى من دبيبِ النَّملِ. فقال له من شاء اللهُ أن يقولَ: وكيف نتَّقِيه وهو أخفى من دبيبِ النَّملِ يا رسولَ اللهِ! قال: قولوا: اللهم إنا نعوذُ بك من أن نُشرِكَ بك شيئًا نعلَمُه، ونستغفرُك لما لا نعلمُه” صحيح الترغيب: 36 حسن لغيره.
وليكثر من الدعاء والابتهال إلى الباري عز وجل أن يخلصه من الوقوع في الرياء وأن يرزقه الصدق والإخلاص.
نسألك اللهم أن تعصمنا من الوقوع في الرياء..
وأن تجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم..
والحمد لله رب العالمين.