لعلَّ الولايات المتحدة، التي ألّفت واخترعت قصة الإرهاب السلفي، تنظر في دهشة إلى خطابات بعض الحكومات العربية الدعية بعد كل عملية اغتيال أو تفجير، حيث أن هاته الحكومات فاقت ما لقن لها، وأصبح بإمكانها إعطاء دروس وتنظيم دورات تدريبية للخارجية الأمريكية، في تجل واضح لظاهرة تفوق التلميذ على الأستاذ المعلم، بل قل إن الشيطان ليزاحم بالركب لاهثا ليقتنص مكانا يمكنه من تدوين أحدث ما اخترع في “تاحريميات”.
فما إن تنفذ أي جريمة يُجهل مرتكبها، وتحاصَر الداخلية في قفص الاتهام والتخوين، حتى ترفع سبابتها مشيرة إلى “الحجام” الذي يجب تعليقه: “السلفيين”؛ كبش فداء جاهز يسيل له لعاب وسائل الإعلام، حيث تحرص هذه الوسائل على تأليف أفظع سيناريوهات الإجرام، وأجود برامج صناعة الموت، معتمدة على “كومبارس” يرتدون لحى مزيفة وثياب مشرقية مغبرة.
إن أهداف السياسة الأمريكية في خلق الفرقة والنفور من كل من يتسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق لحيته، قد آتت أكلها وفاقت كل التوقعات، فالمشاهد العربي الذي شحذ وعيه بكم هائل من أفلام الحركة التي تظهر بطولة رجال “الكوماندوس” الأمريكان الدعاة إلى الخير ومحاربة الشر، حماية للعالم ودرءً لشر السلفية المتأبطة شرا، (المشاهد) ما إن يرى جريمة تصفية أو عملية تفجير حتى يسرح بخياله باحثا عن الفاعل المحتمل، مسابقا موعد خروج الناطق باسم الداخلية، فيراه بعين المتتبع المتشبع مرتديا للزي الأفغاني معتمرا عمامة طرفها ينسدل على كتفه، ذا لحية كثة ونظرة نارية نابعة من عيون حمراء إجرامية، يراه حاملا كلاشينكوف ومسددا سبابته إلى الكاميرا متوعدا بالويل والثبور للكفار والمتعاونين معهم.
ذلك ما يراد للمشاهد العربي أن يراه ويتوقعه، حيث يُضرَب جدار منيع بين الحقيقة ووسائل الإعلام التي تغالط وتدلس غير مقتنعة بعجزها عن طول حقيقة ما جرى، فتضرب أخماسا في أسداس متمثلة دور العراف الذي يجحد قصور قواه مرسلا أسراب الجن استقصاء للغيب، غير أنه ما إن ترجع تلك الأسراب حاملة خفي حنين تجر أذيال الخيبة حتى تشمر على ساعد الفبركة والفوتوشوب، هذا ما يحدث الآن بتونس الخضراء عقب اغتيال المعارض اليساري البراهمي، اغتيال جاء بعد 6 أشهر من تصفية بلعيد الذي لم يفك لغز قتله بعد، وإن وضع وزر مقتله هو الآخر على صدر السلفية، حيث يُحتفظ بكل أوسمة الإرهاب ونياشينه لتعطى لها في الوقت والمكان المناسبين.
فالسلفية تعتبر ورقة “الجوكير” لكل الاستخبارات الفاشلة، كحل أخير أمام تزايد أعداد خفاف حنين، غير أن كل من له إلمام بالفرق الإسلامية لَيسقط على قفاه ضاحكا من مهزلة الجهل المركب لدى أعلى جهاز استخباراتي يعتمد على المعلومات كتحصيل حاصل، فالسلفية أو كما يسمونها في التراجم “السلفية العلمية”، تعني منهجا تعليميا يدعو للرجوع إلى الإسلام الحقيقي عن طريق التصفية والتربية، تصفية الدين مما علق به من بدع وضلالات، وتربية النشء على هذا الإسلام الصافي، وليست السلفية تنظيما أو حركة كما تصر بعض وزارات الداخلية العربية.
إذن السؤال الذي يطرح نفسه أمام تلك التصريحات هو: ماذا يستفيد السلفيون من مقتل معارض للحكومة؟
لقد كان المعارض يصول ويجول في غياب للأمن عقب سقوط بن علي، فلِمَ لم تَطَلْه أيادي السلفية آنذاك؟
ثم لماذا تتم تصفية المعارضين على يد السلفيين كلما علت أصوات اعتراضهم على الحكومة؟
فهل ذلك غباء أم هو استغباء للمواطن العربي؟
إذ كيف يضع السلفيون أقلامهم وكتبهم ليخلصوا الحكومة من لسان مناهض، فالذي يعرف السلفيين يعلم كم هم حريصون على النأي بالنفس عن ترهات السياسة والسياسيين، فلِمَ تصر الحكومات الإسلامية على الزج بهم متجاهلين الإسلاميين الناشطين والمحاربين طمعا في الكراسي والحقائب؟
أليس في ذلك ظلم واستفزاز للحليم وشحذا لغضبه الذي حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إن ما يحدث للسلفيين ليذكرنا بقصة سعيد بن جبير مع الحجاج، فالأخير مارس ظلما وتجبرا على عباد الله في الأرض، لكنه حينما أراد الله له ولملكه الفناء سلطه على سعيد بن جبير الذي كان قد آثر اللجوء إلى الله والهرب من دروب السياسة، فكم قصم الله من ظهور بعد تصويب سهم دعاء ذي مظلمة في الثلث الأخير من الليل، وكم أذل الله من حكام احتملوا بهتانا بعدما رموا عباد الله بغير ما اكتسبوا..
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}.