من المُسَلَّم به أن المعارك بين الحساسيات السياسية لا تنتهي وذلك في كل البلدان على اختلاف هوياتها، لكن الحسم في القضايا المتعارك بشأنها، لا يتم غالبا إلا لصاحب النفوذ والقوة والإعلام، خصوصا إذا كان يجمع بين المال والسلطة، كما هو الحال عندنا.
في المغرب لا يكفي كي تكون مؤثرا، أن تكون لديك أغلبية حكومية، ولا يكفي أن تحظى بأغلبية أصوات الناخبين حتى تتخذ القرارات التي تغير الأمر الواقع وتمكنك من تطبيق برنامجك الحكومي.
في المغرب خصوصا بعد ما سمي بالربيع، -الذي لم يزهر بعد، بله أن يثمر-، نجد رئيس حكومة لا يقوى على إعطاء أوامره لمديرة أخبار، تعمل تحت نفوذ وزير اتصال ينتمي إلى حزبه، يمارس الوصاية قانونيا على الشركة العمومية التي تعمل بها المديرة.
بل يصل الأمر إلى ادعائها أنه يتحرش بها، دون أن يستطيع فعل شيء، ويظل يشتكي من كونها تمتنع عن تغطية نشاطاته ونشر تصريحاته.
قد يبدو هذا من مظاهر الحرية والنزاهة وسعة الصدر، وقد يتراءى لنا أنه إعمال لمبدأ مونتيسكيو في فصل السلط، أو أن هذه الحكومة تتصف بالمرونة السياسية حتى لا تزيد الأمورَ تعقيدا إلى تعقيدها.
لكن عند مَن يعرف حال المغرب، يعلم أن الأمر خلاف ذلك، ويدرك يقينا أنه مظهر من مظاهر تحكم أصحاب النفوذ في دواليب العمل السياسي، حتى لا تتعدى الأمور الحدود التي وضعت مسبقا، وذلك عندما أُخرج بعض رموز هذه الحكومة من فرش السجن المهترئة، إلى كراسي الوزارات المتحركة، ليلعب حاملو المصباح الدور الرئيسي في تصنيع منتوج سياسي سحري، أعطي له اسم: «الاستثناء المغربي»، ويتكون من عناصر أربعة: الإصلاح، في، ظل، الاستقرار.
ولعل من قبيل التطابق مع الواقع، أن تشتمل عناصر هذا المنتوج على ثلاثة أسماء وحرف، ولم يوجد ضمنها فعل ولا فاعل، ربما لكيلا نعلم المصلح من المفسد، ولكيلا نعلم من سيغلب، آالمستفيد من استمرار الاستقرار أم المصلح والمواطن المغلوب على أمره؟
خبراء الثورة لم يعرفوا هذا النوع من الثورات، وحار العالم فَهْما للنموذج المغربي واستثنائه، لذا صعب التكهن بنتائج الرياح الشرقية التي هبت بنكهة الياسمين التونسي على المغرب.
أما المغاربة فلم يعودوا يميزون بين المعارضة والأغلبية، ولا بين الوزير والشاوش.
مديرة الأخبار ظهر لها أن تمارس المعارضة السياسية لكن ليس في البرلمان، بل في الإدارة العمومية، ربما لأنها تدرك حقيقة أبعاد ومعاني ومقتضيات «الإصلاح في ظل الاستقرار».
الموظفة فوق العادة سميرة سيطايل مارست معارضتها هذه المرة، كامرأة ومواطنة في الصفوف الأمامية للوقفة الاحتجاجية إلى جانب «المناضلات» اليساريات اجبابدي ونزهة الصقلي، ضد رئيس الحكومة الذي تجرأ وأشاد في مجلس المستشارين، بدور النساء ربات البيوت في التماسك الأسري، وإظهار معاناة الأطفال في ظل أسرة يشتغل فيها الوالدان، قائلا:
«…المرأة لم تعد تجد الوقت لتتزوج أصلا، لكي تكون أمّا ولتربي أولادها.
لماذا لا نعترف بهذا الدور المقدس الرباني الذي خلق الله سبحانه المرأة مؤهلة له؟
لماذا لم تأتوا لتقولوا لي: لندخل هذا في تقديرنا للمرأة؟
لماذا تعتبرون المرأة لا تشتغل حين تهتم ببيتها وتربية أولادها؟
ألا تعلمون أن النساء لما خرجن من بيوتهن انطفأت البيوت؟
أنتم لا تعرفون هذا لماذا؟
لأنكم عشتم في بيوت فيها ثريات؟
وهادوك الثريات كانوا هُمّا الأمهات ديالكم، الّلي ملي كادخلوا كاتلقاو الدفء ديالهم، والاحتضان ديالهم، وكاتلقاو الحضور ديالهم، والأكل ديالهم، والشرب ديالهم، والحراسة ديالهم، والمراقبة ديالهم ليكم، وكْبرتيو في إطارهم رجال تبارك الله وعيالات في نفس الوقت.
…
ماتعيبوش علينا أننا حنايا كانتبناو البعد الأسري وكانعطيوه أهمية كبيرة.
صحيح، إذا كان هذا خطأ فحنا كانتبناو هذا الخطأ، وكانعتزو به، وكانشعرو بأن الله شرفنا، وغانبقاو ندافعو عليه في وجه هذه المعاصرة لي بغات تلغي هذا البعد وكأن المرأة رجل والرجل امرأة. الـ لا». انتهى.
هذا الكلام لم يعجب النساء «المناضلات» وخرجن للاحتجاج عليه أمام البرلمان، لأنه في نظرهن -كما صرحن- تراجع ومساس خطير بمكتسبات المرأة المغربية.
كان في الصدارة مديرة الأخبار التي لم تعرف النضال قط، إلا ضد من كانت ترتدي الحجاب من زميلاتها في العمل، والتي صرحت بصفتها: «كمواطنة من حقي نشارك فهاد المظاهرة، كمغربية خايفة على مستقبل النساء في هاد البلاد، وشنو لي تيخوفنا؟ هو التراجع لي تنحسو فيه في بعض الكلمات لي تايخدوها رُوجَال السياسة، وهاد التراجع بطبيعة الحال ماخصوش يكون، لأن الدستور عاطينا الحقوق ديالنا، بلاد المغرب كايطوَّر، عَدّنا حقوق ديالنا خاصهم يتحتارمو، والنساء ديال هاد البلاد مايتقاسوش في الكرامة ديالهم وخا غي بالضحك».انتهى.
على من يضحك هؤلاء النسوة؟
إنهن يضحكن على نساء المغرب المقهورات في الجبال والأرياف والبوادي ودور الصفيح.
نساء المغرب لو تسنى لهن الخروج دون هذا اللعب السياسي القذر، لطالبن بالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد الذي ارتكبته ورعته الأحزاب التي تنتمي إليها أمثال تلك المناضلات، ولطالبن بحقهن في خيرات البلاد ليستغنين عن ذل الحاجة، ويرجعن إلى بيوتهن لرعاية أبنائهن الذين يعيشون تحت سطوة القرقوبي والمخدرات والسيليسيون، نعم يرجعن إلى بيوتهن حتى تعود إليهن وإلى بناتهن كرامتهن، التي أهدرت بسبب التجهيل والتفقير على عتبات دور الدعارة، والحانات والعلب الليلية.
نساء المغرب لسن من طينة سيطايل، والوزيرة الصقلي واجبابدي، إنهن أولئك المقهورات في المقاهي تضطر إحداهن للبس سروال يكاد يتمزق من الضيق حتى تبدي تفاصيل عورتها المغلظة، وتكشف عن جيب صدرها حتى تجلب الزبائن، ولا تغادر المقهى إلا قبيل منتصف الليل، مقابل دريهمات لا تكفي حتى لإسكات كلب الجوع.
نساء المغرب ليس هن الوزيرات والمديرات اللائي خرجن للعمل وتحمل المسؤولية لتعوض كل واحدة منهن ثلاث خادمات نسوة مقهورات خرجن من بيوتهن وتركن أبناءهن في الشارع ليشتغلن في بيوت الوزيرات والمديرات طول النهار في الكنس والغسيل.
نساء المغرب هن أولئك النساء الأرامل اللائي يشتغلن في جمع القمامة والتسول، لو تسنى لهن الكلام والاحتجاج على بنكيران لرفعن لافتات احتجاجية مكتوب عليها «الاستقرار هاهو والإصلاح فيناهو». ولطالبنه بكشف الفاسدين الذين يحولون دون توزيع عادل للثروات.
الغريب أن الأحزاب التي تنتمي إليها المتظاهرات بجنب السيطايل، هي الأحزاب نفسها التي رفضت مشروع المساعدة المالية للمطلقات والأرامل الذي تقدم به بنكيران، ولو تم لكان لكل امرأة مقهورة 1000 درهم، تقيها لسعة الجوع.
نساء المغرب هن أولئك النسوة اللائي إذا ما مرضن احتجن إلى البكاء والتسول وتضامن الأقارب والجيران لشراء الدواء ودفع ثمن الفحوصات، وإذا احتجن إلى المستشفيات العمومية أعطيت لهن المواعيد بعد 7 أشهر، حتى يتمكن من الحصول على الفحص بالأشعة لمعرفة نوعية المرض الذي ألَمّ بهن، أو يتوفاهن الله سبحانه، لا مثيلات السيطايل والصقلي اللاتي لا يحملن هم ثمن اللقمة والدواء، وإذا مرضن يكون همهن فقط أن يخترن بين مصحات الرباط والدار البيضاء أو السفر إلى مصحات باريس ولندن. ولا يشعرن هل نقص ذلك من مالهن شيئا.
ربما كان هؤلاء «المناضلات» في حاجة لمن يقول لهن أن الشعارات التي يرفعنها لا تعني النساء المغربيات، اللائي يعتبرن أن الكرامة والسعادة الحقيقية هي أن يستطعن العيش في أسرة لا يفتك بها المرض والفقر والدعارة والزنا والخمر، الكرامة والسعادة عند المرأة المغربية هي أن ترى بناتها وأبناءها يعيشون دون خوف من سيوف قطاع الطريق.
أما شعارات المناصفة والمساواة مع الرجل والتمييز الإيجابي والكوطا والفصل 19، وبكين زائد 5 وزائد 10 ومؤتمر القاهرة، فلن تسد جوعا ولن تروي ظمأ، بل تغطي على المطالب الحقيقية مثل التوزيع العادل للثروة، وتوفير الأمن والتطبيب والدواء.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/ جريدة السبيل