عندما اغتيل الدكتور “موشان” في مراكش اقتحمنا الأرض المغربية انتقاما لروح الفقيد.., وعندما اعتدي على حياة بعض العمال الأجانب في مرسى الدار البيضاء نرى المدينة تتعرض لوابل من القنابل طيلة يومين كاملين, بل ونزل ثلاثة آلاف من الجنود بالدار البيضاء واستولوا على الشاوية, وعندما اغتيل الضابط “ميو” بالشاوية وثبت كوكبة من الجند فاكتسحت حالا زعير واستعمرت الناحية بعد أن أرغمت السكان على تسليم القتلة…
وبهذه الوسائل وحدها استطعنا أن نحمل السكان على احترام عزة الأوروبي..
خرجت أوربا من عصر الظلمات الكنسي والإقطاعي إلى عصر ما بعد الثورة (1789م) الذي سموه زورا عهد الأنوار بل عهد التقتيل وسفك دماء الشعوب المسلمة، حيث لم تمر عشر سنوات (1798م) على هذه الثورة حتى كانت بنادق نابوليون ومدافعه تدك الديار على المسلمين في مصر وتهدم المساجد على المصلين، وفي سنة 1830م احتلت فرنسا بنفس طريقة القتل والتدمير بلاد الجزائر التي لم تخرج منها حتى أزهقت أرواح أكثر من مليون ونصف المليون شهيد.
ونظرا لرفع القيود الدينية حيث لم يعد للحرام لدى الثوار أي اعتبار، استطاعت أوربا أن تطور حياتها الاجتماعية والاقتصادية, وأن تنمي قدراتها العلمية والعسكرية, فانطلقت في الآفاق حتى تضمن استمرارية قوتها باحثة عن أسواق جديدة خارج أراضيها, واتخاذ دول هذه الأسواق مصدرا لتزويدها بالمواد الأولية من المعادن, فتشتري هذه المواد بأزهد الأثمان -إن لم تستغلها بالقوة- ثم تصَنِّعها وتصدرها إلى تلك الأسواق لتبيعها بأثمنة مرتفعة, حتى إذا ما أثخنت صناديق ميزانية تلك الدول بالديون الكثيرة, وتمكن تجارها من احتكار رأسمال التجارة الداخلية والخارجية لتلك الدول الضعيفة, ألزمتها وفرضت عليها عقد الحماية بحجة الدَّين الخارجي, وعدم قدرة النظام على حماية مصالح رعاياها، وضمان استقرار البلاد…
تقسيم المغرب إلى ثلاث مناطق
بمثل هذه الحجج الواهية فرضت فرنسا على المغرب توقيع عقد الحماية, في 30 مارس 1912م والتي سميت بـ”معاهدة فاس”, وتم على إثرها تقسيم المغرب إلى ثلاث مناطق:
– المنطقة الشمالية والمنطقة الصحراوية في الجنوب تحت الحماية الاسبانية.
– المنطقة الوسطى تحت الحماية الفرنسية.
– مدينة طنجة خضعت لحماية دولية بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا واسبانيا.
بعد ذلك اعتبرت فرنسا السلطان مولاي عبد الحفيظ الذي حاول انتهاج سياسة مستقلة، شخصية لا يعتمد عليها، فعزلته من منصبه في غشت 1912م وعينت مكانه أخاه الأصغر مولاي يوسف، الذي سَهُل على فرنسا التحكم به.
واستعاد عقد الحماية (أو معاهدة فاس) الأوضاع والأحكام الرئيسية لاتفاقية “باردو” عام 1881م واتفاقية المرسى لعام 1883م, كما عينت فرنسا مقيما عاما لها في مراكش هو الجنرال “ليوطي” الذي شغل هذا المنصب لمدة 13 عاما (1912م-1925م)، حتى عُدَّ “بانياً” لمراكش الفرنسية.
لقد قامت فرنسا بكل المناورات لتمهيد استعمار المغرب، وأقامت جميع الحجج الواهية التي بررت بها هذا العمل -توقيع عقد الحماية- الذي لم يكن يستند على أية مبررات شرعية أو معقولة, بل استخدموا كل الوسائل لدخول المغرب ضدا عن صرخات البرلمانيين والصحفيين الفرنسيين، وقد كتب النائب الفرنسي المعارض “جان جوريس” في جريدة ” لومانيتي” الفرنسية يوم 4 شتنبر 1911م ما يلي: “إننا شعب يكرهه المغاربة والسبب أننا أردنا اقتسام أراضيهم..”, وقد صرخ نفس النائب أمام جميع البرلمانيين يوم 24 مارس 1911م قائلا: “إن المغرب يتعرض لعملية نهب.. إنه يتعرض للسرقة.. إن ديون فرنسا على المغرب سبق أن ألغيت من طرف السلطات الفرنسية حين اعتبرها المولى الحسن غير شرعية, فلماذا يا ترى يتم إحياؤها اليوم في عهد سلطان آخر…!”.
وقفة مع السلطان عبد الحفيظ
قال المؤرخ “مارتان” صاحب كتاب “تاريخ المغرب طيلة أربعة قرون” وهو يذكر ردود فعل السلطان عبد الحفيظ في الحوار الذي دار بينه وبين وزيره المقري عقب مغادرة الوزير الفرنسي “رونيول” الذي حمل وثيقة الحماية لعرضها على السلطان عبد الحفيظ:
“وأمام هذه الوثيقة فهم السلطان ماذا كان ينتظره من عناء, وما ينتظر الإسلام كذلك من مذلة وهوان, ..إن قبول التدخل الأجنبي..كان من أبرز ما حفز المولى عبد الحفيظ إلى القيام ضد أخيه, فكيف يقبل بما قاومه بالأمس؟..وهل يقبل هذا المكتوب الذي حررته أدمغة مسيحية محتالة..؟
صرح السلطان للوزير المقري متألما:
آه! يا ليتني لم أطلب منهم عونا! ويا ليتهم لم يكونوا ورائي في هذا الوقت العصيب الذي يتطلب المزيد من العمل! إنني أريد الاستمرار في الكفاح! إني أريد أن أجعل المسلمين في مأمن من هذه الكارثة التي تهددهم من جراء هذه الوصاية الأجنبية وهذا النفوذ المسيحي دمره الله ومحقه”.
“إنا لله وإنا إليه راجعون!” “لله الأمر من قبل ومن بعد”
رجع السلطان بعد لحظات إلى فورته القوية العنيفة.. فماذا كان يريد السلطان؟ إنه يريد أن ينصرف يريد أن يلتحق ببلاد زايان يريد أن يعتصم بجبال بلاد البربر وبلاد الشلوح من حيث يشن الجهاد مرة أخرى!”.
ويكشف “جان جوريس” بعض أسرار هذه العملية (إلزام المغرب بعقد الحماية) حينما يقول: “لقد علمت من قنصلنا العام بفاس “كايارد” أن المولى عبد الحفيظ استنكر ممارساتنا وأنه طلب أن تتوقف فرنسا عن مناوراتها وأنه قال للقنصل العام: ماذا تريد فرنسا مني؟ لقد انتزعت كل شيء واحتلوا أطرافا من مملكتي واستولوا عن كل مصادري, وأنا لا أستطيع شيئا في هذه الظروف فماذا يريدون…إنني في قبضتكم فاصنعوا بي ما تشاؤون..”.
وقال كذلك: “إني لا أصدق أن السلطان عبد الحفيظ طلب حماية فرنسا, ولا أصدق أنه يريد أن يتنازل عن العرش, إن الأمر مجرد مخطط مرسوم يستهدف إلزام السلطان بذلك..”.
أيام فاس الدامية
لقد قررت السلطات الفرنسية أن يتم عقد اتفاقية الحماية بين السلطان المولى عبد الحفيظ والوزير الفرنسي “رونيول” في سرية تامة حتى لا تقع الفوضى ويثور الشعب المغربي خصوصا وأن العلماء كانوا يستنكرون التدخل الأجنبي ويُهيّجون الناس ضده, إلا أن الصحافة -كجريدة “لوماتان”- كشفت أمر هذه الاتفاقية مما أغضب الحكومة واليمين الفرنسي بالبرلمان ودفع أحد النواب إلى اتهام بعض الصحافيين بالخيانة الوطنية، لتترتب عن هذه الاتفاقية مشاكل وتوترات داخلية جديدة بفرنسا.
بعدما تسرب خبر الاتفاقية للمغاربة انتفضت مدينة فاس يوم 17 أبريل 1912م انتفاضة تاريخية ضد الجنود والمعمرين الفرنسيين, فقتلوا قرابة ثمانين فرنسي كرد فعل للمهانة والذل الذي شعروا به من هذا العقد, وهذا ما لم يصدقه الفرنسيون الذين كانوا يظنون أن الفاسيين أهل موادعة وخور وعجز, فانقلبوا بين عشية وضحاها إلى أسود تنهش جسم كل مستعمر حتى وصفهم الصحفي الفرنسي “هوبير جاك” في كتابه “أيام فاس الدامية” بالخونة والمجرمين, بل سمى فاساً بـ “المدينة المجرمة”.
التدخل العسكري الفرنسي وسياسة القمع
إن المستعمر دائما يدخل دولة ما ليستولي على سلطتها, ويستعبد أهلها, ويستنزف خيراتها.., ويريد من أهلها أن يستقبلوه بالورد والحليب والتمر, وبالأذرع المفتوحة لعناقه, فهو المخلص الذي ينتظره المقهورون, وهو الحكم الفصل لأخذ الحق للمظلومين.., لكن سرعان ما تنكشف حقيقته فينتفض الناس عنه استنكارا لاستعباده, ودفاعا عن حق الحرية, وكفرانا بولاية الكافر على دولة الإسلام..
قال “هوبير جاك”: “إن البرلمان يظل غير مكترث بالأسباب التي أدت إلى مجزرة فاس، حيث قتل ثمانون فرنسيا، وحيث أتت هذه المجزرة على جهود عشر سنوات في خدمة السياسة المغربية…”.
إن هذا الصحفي الذي يمثل الفكر الفرنسي والذي وظيفته نقل الحقيقة للرأي العام يكرس لمفهوم الاستعمار والاستعباد, بل استنكر على دولته عدم التدخل بيد من نار وحديد لقمع الفاسيين حيث قال في كتابه المذكور:”والعجب أن الفرصة سنحت وكان في الإمكان أن ننزل الضربة عليهم في نفس اليوم 17 أبريل 1912م لكن واحسرتاه تركناها تفلت من يدنا وكنا بحق مجرمين عندما تهاونا”.
ومما قاله في هذا الصدد: “عندما اغتيل الدكتور “موشان” في مراكش اقتحمنا الأرض المغربية انتقاما لروح الفقيد.., وعندما اعتدي على حياة بعض العمال الأجانب في مرسى الدار البيضاء نرى المدينة تتعرض لوابل من القنابل طيلة يومين كاملين, بل ونزل ثلاثة آلاف من الجنود بالدار البيضاء واستولوا على الشاوية, وعندما اغتيل الضابط “ميو” بالشاوية وثبت كوكبة من الجند فاكتسحت حالا زعير واستعمرت الناحية بعد أن أرغمت السكان على تسليم القتلة…
وهكذا كان المبدأ المتبع دائما يتلخص في أنه عند أقل اعتداء يبدر من الجانب المغربي إلا ويعقبه حالا وبدون تأخير قمع من النوع العنيف القاسي.. وبهذه الوسائل وحدها استطعنا أن نحمل السكان على احترام عزة الأوروبي.. وإن المغاربة لا يؤمنون إلا بالقوة فهم يعتبرونها حليفا للعدالة, والحق عندهم ما فرضته القوة! وهم بناء على هذا يعتبرون أن كل تدبير للرحمة والصفح دليل على الضعف وقلة النفوذ!”.