شجّع ولا تخذُلْ ربيع السملالي

قبل سنوات قليلة عرضَت عليَّ فتاة مبتدئة في الكتابة نصًّا أدبيًّا لها؛ لأعطيها ملاحظاتي وأصحِّح ما يُمكن تصحيحه، وأكَّدت عليَّ ألا أبالغ في المدح أو المجاملة، فقرأت النصَّ مرتين، ووجدتُ فيه خمسة أخطاء نحوية، والفكرة جيِّدة فيها بُعد نظر وإبداع، والأسلوب متوسِّط، لكن وجدت روحَها حاضرة بقوة، لا تكلُّف ولا اصطناع؛ بل شعرتُ بدقّات قلبها بين الكلمات، وجدتني صراحة أمام مشروع كاتبة فذَّة سيكون لها شأن في مستقبل الأيام، إذا هي اجتهدت وصقلت موهبتها بكثرة القراءة والاطلاع، وحفظ ما يمكن حفظه من روائع الشعر والنثر، فأخبرتها بملاحظاتي وأثنيتُ عليها ثناء جعلها تتحمَّس وتُبالغ في شكري، معبِّرة عن امتنانها لصدقي وعدم مجامَلتي لها، ثم مرَّت الأيام وتعاقبت الليالي، ونسيتُ مِن أمرها كل شيء، ولم يعد لها وجود في الذاكرة، حتى إذا كان الخميس الفائتُ، وصلتْني رسالة مطولة منها: تُخبرني فيها أنها قد نشرت أول كتاب لها، وقد لاقى استحسانًا لا بأس به من طرف القراء والمتابعين، ثم استرسلت قائلةً: ولا أُخفيك سرًّا أنك كنت بكلماتك المحفِّزة لي السببَ الرئيس في ما أنا عليه الآن، ولن أنسى ما حييت نصيحتَك، وتحريضك على قراءة الكتب التي تَصقل موهبتي وتدفعني إلى الأفضل والأكمل..
قد يتساءل بعض الإخوة: وما قيمة هذا الكلام كله هنا؟ فأجيب: هذا الكلام قيمته أن تأخذ بيد المبتدئين في أي مجال كان، ولا تكن سببًا في خذلانهم، وإطفاء تلك الجذوة المشتعلة في قرائحهم، فرب كلمة منك ترفعهم إلى السماء، وكلمة تنزل بهم إلى الحضيض، لا تبالغ في المدح، ولا تسرف في الذم وأعطِ لكلِّ ذي حق حقه، وتغاضَ عن هفوات من جاءك قاصدًا يريد نوالك ونصائحك بعدما سمع أنك من أهل هذا الشأن، وإني أُخبر عن حالي:
كنتُ في بداية طلبي للعلم أقرأ على شيخ من شيوخ مدينتي ألفيةَ ابن مالك في النحو، وكان قد ألَّف كتابين، فقلت له: يا شيخ كم أرجو أن أصل إلى مستواك في الكتابة! فقال لي: يا ربيع، أنت لك همَّة وعزيمة، وستكون في المستقبل أفضل مني بكثير، هكذا والله، ولا أذكر كلمة نفعني الله بها كما نفعني بهذه الكلمة، رغم كثرة كلمات الثناء التي سمعتها من أساتذتي.
وتحضرني قصّة لطيفة في هذا المقام ذكرها الدّكتور سلمان العودة في كتابه زنزانة ص:155. 156 يقول فيها:
أول يوم تستأنف الدراسة جاملتْهم ونظرتْ إليهم، وقالت: إني أحبكم، كانت تستثني تلميذًا واحدًا أمامها لا يلعب، متسخ، يحتاج الحمام، غير مبهج، كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بقلم أحمر عريض وتضع علامة x، ثم تكتب راسب.
راجعت ملفاته ففوجئت.
في السنة الأولى: ذكي- مرح- مهتم- بدراسته- دمث الأخلاق.
في الثانية: نجيب ومحبوب ولكن منزعج وقلق بسبب مرض والدته.
في الثالثة: كانت وفاة أمه صعبة عليه، والده غير مهتم.
في الرابعة: منطو على نفسه، ولا رغبة لديه في الدراسة، وليس لديه أصدقاء، ينام أثناء الدرس!
كان هناك حفل في الفصل، أحضر لها هدية ملفوفة في كيس نايلون، بينما جميع الطلاب أحضروا هداياهم مغلفة، فتحت الهدية، ضحك الطلاب، عقد مؤلف من ماسات مزيفة ناقصة الأحجار، وقارورة عطر فيها ربعها، كفّ الطلاب عن الضحك عندما عبرت المدرسة عن إعجابها بالعقد ولبسته ووضعت قطرات من العطر على يدها.
في آخر اليوم قال لها: رائحتك اليوم تشبه رائحة أمي!
انفجرت باكية لمدة ساعة.
بدأت تهتم به، عقله يستعيد نشاطه، يستجيب أسرع، من أكثر الطلاب تميزًا، منحته الحب.
أرسل لها مذكرة: أنتِ أفضل معلمة قابلتها في حياتي.
بعد سنوات أرسل لها: أكملت الثانوية بتفوق.
بعد أربع سنوات أرسل لها: تخرجت من البكالوريس بدرجة الشرف الأولى.
بعدها أرسل لها: رسالة شكر كان اسمه طويلًا بعض الشيء (دكتور).
وذكر لها بأنه سيتزوج ودعاها إلى الزواج، وجلست مكان أمه وكانت
ترتدي العقد الذي أهداهُ لها.
قال: أشكرك أن جعلت مني تلميذًا مميزًا.
قالت: أشكرك أن جعلت مني معلمة مميزة.
هو الآن طبيب شهير لديه جناح لعلاج السرطان في مستشفى بولاية (ايوا) بالولايات المتحدة الأمريكية.
وكذلك كتبَ العقّاد عن دور محمد عبده في قدح همّته، ودور أستاذه الدشناوي فقال: كان أستاذنا في اللغة العربية والتاريخ الشّيخ فخر الدين الدشناوي يعرض كراساتي التي أكتب فيها موضوعات الإنشاء على كبار الزوار لمدرسة أسوان، وكان كبار الزوار لهذه المدرسة أكثر عددًا وأعظم شأنًا من كبار الزوار لمدارس القطر كله؛ لأن أسوان كانت قبلة العظماء والكبراء من جميع الأرجاء في موسم الشتاء. واطلع الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده على إحدى الكراسات فقال: (ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعد). فكانت هذه الكلمة أقوى ما سمعت من كلمات التشجيع. (أنا للعقاد ص 60. 63).
وأكتفي بهاذين المثالين ومن أراد المزيد فعليه بكتاب (مذّكرات قارئ) للدّكتور محمد حامد الأحمري، فله فصل ماتع بعنوان: قدّاح الهِمَم.. جاء فيه بنوادر وحكايات وكلمات رائعة تستحقّ المطالعة والمدارسة والمذاكرة.. والكتاب كلّه مميّز ومفيد.
ودامت لكم المَسرّات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *