في سنة 1425هـ ألقى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق درسا حسنيا بين يدي أمير المؤمنين، شدد فيه على أن العالم أو الفقيه أو الواعظ لا يحق له أن يقوم بنقد الواقع وتحليله؛ أو أن ينزِّل النصوص الشرعية على المستجدات العصرية؛ أو أن يتعرَّض إلى ما يعيشه الناس من تناقض صارخ بين ما تنصُّ عليه الشريعة الإسلامية من عقائد وأحكام وأخلاق وسلوك؛ وبين ما هو موجود حقيقة على أرض الواقع؛ بل يجب -وفق قوله- على السادة العلماء؛ والخطباء تبع لهم؛ أن ينأوا بخطابهم عن “الشعبوية”.
ومنذ ذلك الوقت والوزير يكدّ لتنزيل مشروعه هذا على أرض الواقع، فأنشأ مؤسسات، وشيد بنايات، ورسم خططا، وعين مناديب وحراسا على المساجد، وأقصى وعزل وأقال عددا كبيرا من المسؤولين والوعاظ والخطباء والعلماء، ولم يُعِرْ أي اهتمام لتبعات قراراته التعسفية، ولا لتاريخ من أنزلهم من المنابر ومنعهم من القيام بمهامهم الدينية داخل بيوت الله تعالى.
وكان يظن التوفيق أنه سائر في الطريق الصحيح، وأن مخططه سيكلل بالنجاح، لكنه صدم بأن الساهرين على مباشرة التأطير الديني، رغم التكوين ورغم التوجيه ورغم سياسة الوعد والوعيد، “جامدون متكلسون”، وعاجزون عن تحقيق أماني السيد الوزير.
فأيا كان توجه العالم والخطيب، وبغض النظر عن انتمائه وولائه، سواء كان لجماعة إسلامية، أو مدرسة فكرية أو فقهية، أو مؤمنا حتى النخاع بثالوث (عقيدة الأشعري وفقه مالك وسلوك الجنيد)، فلا يمكنه إطلاقا أن يقتنع بمشروع وزير الأوقاف وطرحه الجديد.
من أجل ذلك فالوزير، الذي تصفه المنابر العلمانية بمارتن لوتر، يجد معاناة كبيرة في هيكلة الحقل الديني، ولم يستطع إلى حدود الساعة أن يطوع معارضيه، ولا أن يقنع مخالفيه والمشتغلين معه بخطته الرامية إلى تساوق الديني مع السياسي، ومنع الديني من التدخل في مجالات السياسة والاقتصاد والفن… ومحاصرة خطابه بين جدران المسجد، وقضاياه في دائرة فقهية محددة ومنضبطة.
وتنفيسا عن الغيظ والحنق الذي يشعر به جراء هذا الإخفاق، والمعاناة التي يكابدها لسنوات، جاءت خرجته الجديدة في الدرس الحسني الذي ألقاه في الثاني من رمضان 1438هـ غير محسوبة ولا منضبطة، جرت عليه وابلا من السخط والسخرية، سواء من السادة العلماء، أو من المفكرين والسياسيين، أو باقي المواطنين الذي يعبرون عن مواقفهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بطرق متنوعة ومختلفة.
التوفيق وضع نفسه من جديد في موقف حرج للغاية سواء من الناحية العلمية، حيث حكم على من تبنى قضايا فقهية مقررة في السنة والمذهب أيضا بالتكفير دون بينة، أو من الناحية السياسية حين أثار الفتنة وحاول أن يوقع كعاته بين الملك ورعاياه في وقت حرج للغاية، يعرف حراكا في الريف ومظاهرات في عدد من مدن المملكة.
صراحة الوزير التوفيق فقد البوصة، ولا أدري سبب طلقاته العشوائية، هل هو تقدمه في السن، أو حقده الأيدولوجي، أو مرجعيته السلوكية البودشيشية، أم شيء آخر لا أعرفه بالضبط.
لك أن تتخيل فقط أيها القارئ الكريم أن مسألة مهرجان “موازين” وعروض “جينيفر لوبيز” الستريبتيزية خلافية عند الوزير التوفيق، بينما السدل والبسملة في الصلاة وغيرها لا خلاف فيها، وأكثر من هذا فمن تبنى غير ما يقول التوفيق فهو تكفيري. أليس هذا هو منطق (ما أريكم إلا ما أرى..)؟!
ولك أن تتذكر أيضا أيها القارئ أن الوزير يتسامح من الديانات السماوية والوضعية كلها، وتعقد وزارته مؤتمرا دوليا تحت عنوان “الأقليات الدينية في الديار الإسلامية: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة”، لكنه عاجز عن التسامح في مسائل خلافية عند فقهاء الإسلام، وعن التواصل مع مغاربة من أبناء وطنه يخالفونه في قضايا ويوافقونه في أخرى.
فرجاء لا تؤاخذوا (سي احمد) فهو مستاء.. ولا تحملوا خطابه أكثر مما يحتمل..