فضل الجمع بين الأذكار الواردة والتنويع بينها

 

 

فضل الذكر وشرفه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكفى لفضيلة الذكر شرفا أن الله تعالى يذكر من عباده من يذكره، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه “الوابل الصيب من الكلم الطيب” أن للذكر أكثر من مائة فائدة، ثم عدّد كثيرا من تلك الفوائد وتكلم عليها.

والمشروع في الأذكار أن يجمع الذاكر بينها، وألا ينشغل بذكر عن غيره، إنما ينشغل بجميع الأذكار، حتى يصيب من فضل كل ذكر ما يمنّ الله به عليه من أجره وثوابه، قال النووي رحمه الله: “ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرّة واحدة، ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً، بل يأتي بما تيسر منه”. انتهى من “الأذكار” (ص:8).

وقد ثبت أن (سبحان الله وبحمده) صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق؛ فروى الإمام أحمد (6583) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ…) وصححه الألباني في “الصحيحة” (134).

كما ثبت أن هذا الذكر أحب الكلام إلى الله؛ فروى مسلم (2731) عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: (إِنَّ أَحَبَّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ).

وروى البخاري (6405) ومسلم (2691) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ).

فثبت أن هذا الذكر يكفر الذنوب، ولكنه لا يقوم مقام الاستغفار، والاستغفار في مقام التوبة وطلب المغفرة والعفو من الله: أفضل من هذا التسبيح؛ لأن العبد في الاستغفار يستحضر الذنب، ويستحضر الخوف من الله، وحسن الظن به والرجاء في عفوه، فلا يغني هذا التسبيح عن الاستغفار؛ ولذلك روى مسلم (484) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ “سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ” قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: (خَبَّرَنِي رَبِّى أَنِّى سَأَرَى عَلاَمَةً فِي أُمَّتِى فَإِذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فَتْحُ مَكَّةَ (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).

فجمع بين “سبحان الله وبحمده” وبين الاستغفار، فدل على أن التسبيح لا يغني عن الاستغفار، ولا الاستغفار يغني عن التسبيح؛ بل كلاهما مطلوب من العبد، ثم قد يتفاضل بعضهما على الآخر، في حال دون حال.

قال ابن القيم رحمه الله: “وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه، وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعَه؛ فللعين موضع، وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع!!

وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله تعالى الموفق.

وهكذا الصابون والأُشْنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير [التطييب] وماء الورد أنفع له في وقت.

وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً: سُئل بعض أهل العلم: أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟

فقال: إذا كان الثوب نقياً: فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له!!

فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟”. انتهى من “الوابل الصيب” (232-233).

يعني، والله أعلم: أن العبد لا يستغني عن الاستغفار في حال من أحواله.

ثم هو أيضا: لا يستغني عن التسبيح والتحميد، على ما مر ذكره، والجمع بينها، ثم اختيار ما يقتضيه الحال في بعض الأوقات: هذا باب فقه العبودية، والقيام بمراتب الأعمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *