الاستهزاء بآيات الله الكونية صورة من صور الإلحاد فيها ناصر عبد الغفور

 

من صور الإلحاد في آيات الله الكونية: السخرية بها والاستهزاء بها، وهو من أخطر هذه الصور، لأن الاستهزاء بالشيء المسير([1]) المسخر([2]) هو في حقيقته استهزاء بالمسير([3]) المسخر([4]) له، وكم سمعنا وقرأنا من كلام ساخر بهذه الآيات، وقد يظن البعض أن الأمر هين وهو ليس كذلك كما قال جل في علاه: “وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم”، بل ترى البعض يتفنن في هذه السخرية، من نكت ورسوم كاريكاتورية وغير ذلك من صور السخرية.

ولو تأمل المسكين قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا” وما فيه من الوعيد والتهديد لانزجر عن غيه وكف عن فعله، فقوله: “{لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}.. فيه تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي: إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال”([5]).

ولنتدبر قول الله تعالى: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ”-التوبة:65-.

سبب نزول هذه الآية ما حدث من طرف بعض المنافقين في الطريق إلى تبوك، فعن “زيد بن أسلم ومحمد بن وهب: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق”([6]).

ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من استهزأ بشيء من السنة أو القرآن أو الدين عموما أو استهزأ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لحقه ذاك الوعيد الشديد عياذا بالله.

ولا ريب أن الذم يصل لمن استهزأ بشيء من آيات الله الكونية، لقوله تعالى: “وآياته…”، وكما أسلفت الجمع المضاف يعم، وليس هذا يعني إلحاق نفس الوعيد الشديد بمن سخر بشيء من الآيات الكونية، لكن لا يأمن أن يلحقه الذم العظيم وقد يصل إلى درجة ذلك الوعيد إن صاحب تلك السخرية استخفاف بالمدبر لها -عياذا بالله-.

2- إيراد سؤال وجوابه:

أختم مقالي هذا بإيراد سؤال وجوابه:

قد يقول قائل: إن ما ورد من التهديد لمن يلحد في آيات الله تعالى إنما هو خاص بآيات الله الشرعية ولا دخل للكونية في ذلك، وأكتفي بالرد عليه من ثلاث وجوه:

 

– الأول: أن الأصل بقاء العام على عمومه حتى يرد ما يخصصه كم قرره العلماء في مظانه. ومن قواعد التفسير: “الخبر على عمومه حتى يرد ما يخصصه”([7]).

– الثاني: أن للسياق وما يتعلق به من سابق ولاحق دور كبير في التفسير، وإذا تأملنا كلام الله تعالى وجدنا التهديد لمن ألحد في آياته سبحانه ورد بعد ذكر مجموعة من الآيات الكونية، يقول تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ(38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)”، وهذه كلها من الآيات الكونية، ثم قال تعالى بعد ذلك: “إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” -فصلت:40-.

– الثالث: أن حمل الآيات على الكونية وإن كان المأثور عن السلف تفسيرها باعتبارها شرعية لا يعاب، لأنه ليس تفسيرا مناقضا لتفسيرهم، خاصة إذا علمنا أن الآية إذا احتملت معنيين أو أكثر جاز حملها عليها كلها إذا لم يكن بينها تعارض، لأن هذا يؤدي إلى تكثير المعاني.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن فسر قوله تعالى: “جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ” بتفسير لم يقل به أحد من السابقين: “ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم سوف يهزمهم، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح، أنه لما سأل علياً رضي الله عنه: هل خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال له علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلاً في كتاب الله، وما في الصحيفة، الحديث. فقوله رضي الله عنه: إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتاب الله، يدل على أن فهم كتاب الله تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون.

وما ذكرنا أيضاً أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة تعين حملها على الجميع كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن”([8]).

هذا والله أعلم وأحكم ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم.

————————————————-

([1]) بفتح الياء.

([2]) بفتح الخاء.

([3]) بكسر الياء.

([4]) بكسر الخاء.

([5])تفسير ابن كثير:7/183.

([6]) أسباب النزول للواحدي:169، وذكره بعض أئمة التفسير كالطبري وابن كثير وغيرهم.

([7]) قواعد التفسير جمعا ودراسة:2/599.

([8]) أضواء البيان:16/14-15.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *