تقديم
هذا الفصل مأخوذ من الدراسة القيمة التي أنجزها العلامة الشيخ المكي الناصري بتكليف من المؤتمر الإسلامي المنعقد بالقدس الشريف سنة 1931، بعدما توجه لسويسرا بدعوة من الأمير شكيب أرسلان على إثر تدخل فرنسا لدى السلطة المصرية لطرده من أرض الكنانة، وهنا ك أنجز هذا البحث المعنون بـ(مراكش بين الحماية والحكم المباشر) سنة 1932.
النص:
القضاء الإسلامي والقضاء الفرنسي
يقول المسيو ربير منتاني بأن (التزامات المعاهدات الدولية تفرض وجود دولة مغربية مشابهة للدول الأوربية موحدة متمركزة، محكمة حكما نظاميا، طبقا لقوانين محدودة) (كتاب “البربر والمخزن” ص:414).
فما هي هذه القوانين التي تسمح فرنسا أن يحكم بها المغرب؟
أهي قوانين الإسلام أم قوانين فرنسا؟
الواقع أن تاريخ الإستعمار الفرنسي علمنا دائما بأن أهم غرض من أغراضه هو إدماج الأمة الواقعة تحت سلطته، وإقامة القانون الفرنسي فيها على أنقاض قوانينها الأولى، ولذلك لم تكد فرنسا تطأ أقدامها أرض المغرب حتى شرعت في تأسيس المحاكم الفرنسية، وصرح مقيمها العام ليوطي (بأن تأسيس عدلية منظمة كاملة، هو على رأس الإلتزامات الجوهرية التي يتضمنها انتداب أوربا لفرنسا في المغرب) ليوطي ص:131، ولم يكن المغرب وقتئذ يعرف من المحاكم إلا نوعين اثنين.
– المحاكم الإسلامية لجميع المغاربة.
– المحاكم القنصلية للأجانب، التي كانت تحكم في القضايا التي تقع بين رعاياها الأصليين بعضهم مع بعض أو بينهم وبين التابعين لها من أبناء المغرب طبقا لقوانينها الخاصة.
وكانت مساعي الأجانب والمغارية التابعين للمحاكم القنصلية ضد النفوذ الفرنسي أمرا مقلقا لراحة فرنسا معرقلا لكثير من خططها ومؤامراتها، وكانت ترى أنه مع وجود المحاكم القنصلية وحمايتها للأجانب والمغاربة التابعين لها، لا تستطيع أن تمضي في خطتها آمنة مطمئنة، فواجب إذن إسقاط المحاكم القنصلية، وأما المحاكم الإسلامية فهي محاكم واسعة السيطرة غير محدودة الإختصاصات تتناول السلطان ومن دونه، وتحكم في الأموال الشخصية والمدنية والجنائية والتجارية والعقارية وسائر ما يتصل بحياة المغاربة المسلمين طبقا للقانون الإسلامي العام، وفق المذهب المالكي الخاص.
وبقاء هذه السلطة الإسلامية الواسعة للقضاء الإسلامي لا يتفق مع السلطة الفرنسية الجديدة التي جاءت فرنسا لتوطيدها والقضاء على كل سلطة سواها، لاسيما فرنسا تريد أن يكون المغرب مستعمرة لأبنائها وملجأ لفقرائها ومتشرديها.
فهي تريد أن تطعمهم من خيرات المغرب دون حساب، وأن تقدم إليهم كل ما تستطيع من أموال المغرب دون حساب، وأن تقدم إليهم كل ما تستطيع من أموال المغرب وأملاك المغاربة، ولا يحسن مع هذا أن يكون القضاء الإسلامي رقيبا عليها وحجر عثرة في سبيلها، بل إن شرف فرنسا لا يسمح بإخضاع أبنائها للمحاكم الإسلامية، وإنما الواجب أن يخرج المسلمون من محاكمهم إلى المحاكم الفرنسية حتى يتحاكموا إلى قضاة فرنسيين، وحتى يحكم عليهم بقانون فرنسي أسس لخدمة الإستعمار.
على هذا الأساس قام مشروع (المحاكم الفرنسية)، وصدر ظهير مؤرخ في 31 أكتوبر 1912، يسمح بإعداد الوسائل لإنشاء المحاكم الفرنسية، واجتمعت في باريس لجنة من المستشارين وكونت نظاما قضائيا يقول عنه أجيستان برنار (أنه نظام سهل واضح مستمد من أحدث المبادئ في مختلف القوانين الأوربية) ص:404، مضيفا (بأن جهودا كثيرة بذلت لتبسيطه وجعله ملائما للمغرب) ليوطي ص:106.
ولم تنته عشرة أشهر من إعدادات اللجنة الباريسية وتقديم مشروعاتها القضائية حتى صدرت سلسلة من الظهائر بتاريخ 12غشت 1913 لتقرير مشروعات باريس.
وبعد صدور هذه السلسلة بنحو ثلاثة أسابيع صدر أمر عال مؤرخ في 7 شتنبر1913 يسمح بإنشاء المحاكم الفرنسية في المغرب إلى جانب المحاكم الإسلامية، فأنشئت محكمة الأستئناف الفرنسية في الرباط، ومحاكم مختلفة الدرجات في الدار البيضاء والجديدة ومراكش والصويرة وأسفي وفاس ووجدة، وظلت هذه المحاكم تمتد وتنمو كل سنة إلى الآن، وأصبحت المحاكم الفرنسية تحكم في القضايا الجنائية والمدنية والتجارية والعقارية.
وأهم الخصائص التي امتازت بها هذه المحاكم ما يقوله ليوطي: (إنها أخذت على نفسها أن تطبق دائما أحدث الأساليب التي دلت التجربة على فضلها، وأنها سهلت طرق المرافعات وإجراء الدعاوي وبساطتها كل التبسيط، وأنها تسرع في الحلول والأحكام، وأنها قليلة النفقات، وأنها تحمي شهودها والمتحاكمين إليها ضد أصحاب المنافع ) ليوطي ص:106.
ويخبرنا لويس باريطو (بأن هذه العدلية الجديدة قامت على أسس تضمن مصالح الدولة الحامية ومصالح الفرنسيين والأجانب)، ويخبرنا بأن ممثل فرنسا ومقيمها ليوطي (لم يهمل مع هذا موقف الوطنيين المغاربة بل خصهم في هذا الوضع الجديد بشيء من العناية والإهتمام )، وأخبرنا هذا المؤرخ الأمين فوق كل ذلك كله بأن (إنشاء هذه المحاكم الحديثة كانت مفتقرة إلى ظهائر عديدة يوقع عليها السلطان باسمه الشريف، وأن المقيم العام قدم إلى السلطان لقاء هذه المساعدة شكر فرنسا واعترافها بالجميل).
عرضت فرنسا مسألة تأسيس المحاكم الجديدة على الدول التي وقعت معاهدة مدريد، وقدمت للأجانب كل الضمانات القضائية اللازمة، وأعلنت أن نظام الإمتيازات لم يعد له مبرر، وأن المحاكم القنصلية يلزم إلغاؤها، وضم اختصاصاتها إلى المحاكم الفرنسية، وانتهى الأمر بقبول هذه الدول النظرية الفرنسية، وسقطت الإمتيازات الأجنبية في المغرب.
أما بريطانيا العظمى والولايات المتحدة فقد ظلتا محتفظتين بالإمتيازات التي منحها النظام السابق قبل الحماية، وعارضتا في الخضوع للمحاكم الفرنسية، أما ألمانيا والنمسا فقد صدر ظهيران شريفان بإلغاء امتيازاتهما، أحدهما مؤرخ بالخامس والثاني مؤرخ بالثالث عشر من شهر غشت سنة 1914.
وبذلك أصبح جميع الرعايا الأوربيين في المغرب تحت السلطة الفرنسية مباشرة، ما عدا انجلترا وأمريكا.
ويجب أن يلاحظ منا أن قضاة المحاكم الفرنسية يصدرون أحكامهم باسم سلطان المغرب لا باسم فرنسا، وأن جميع القوانين التي يرى الأجانب تنشر باسم السلطان، وتوقيع الصدر الأعظم، مع مصادقة المقيم العام!
وهنا أريد أن أعرض قطعة مهمة من أول تصريح رسمي ألقاه المقيم ليوطي في محكمة الإستئناف الفرنسية (إن المحررين للقانون الجديد حققوا رغبة من رغباتي، وذلك بإرضائهم للمسلمين في جميع الحالات التي تمتد فيها محاكمنا الجديدة على العنصر الوطني، وأنا أصبو بالخصوص لنظام الإستشارة الذي يفرض وجود مستشارين من المغاربة عندما تعرض على المحاكم الفرنسية جرائم يرتكبها الأهالي ضد الأوربيين) ليوطي ص:106.
ومن هذه القطعة الصغيرة تفهمون أيها السادة أن إدخال المغاربة المسلمين في دائرة المحاكم الفرنسية كان على أساس الأغراض التي أنشئت لها هذه المحاكم، ففي هذه القطعة اعتراف صريح من ممثل فرنسا بأنه مسرور من الحلول التي وضعها محررو القانون الجديد بخصوص قضايا المسلمين.
وظهر أن المحاكم الفرنسية ليست خاصة بالفرنسيين والأجانب كما كان يفهم منها جلالة السلطان مولاي يوسف لأول ما عرض عليه هذا المشروع.
وبعد، فماذا فعلت فرنسا إزاء المحاكم الإسلامية؟
الواقع أن المحاكم الإسلامية قبل الحماية كانت من نوعين:
محاكم مخزنية، ومحاكم قضائية، ورئيس المحكمة المخزنية يسمى في المدينة بالباشا وفي القبيلة بالقايد أو العامل، أما رئيس المحكمة القضائية فهو القاضي الشرعي.
وكان المغاربة كلهم لا فرق بن المدن والقبائل العربية والبربرية يخضعون لمحكمة القاضي ومحكمة الباشا أو القايد، وكان (العمل الفاسي) أو (العمل الرباطي) أو(عرف البلاد) أو (عرف القبيلة) على رأس الأمور التي تعمل بها هذه المحاكم الإسلامية في تكييف القضايا والأحكام ما دام ذلك لا يمس بالمعاني الجوهرية في الإسلام بناء على الأصل الفقهي القائل (العادة محكمة)، وكان أهم اختصاص للمحاكم المخزنية أنها تحكم في الجنح والجنايات وتقوم بتوزيع العقوبات وتنفيذ أحكام القضاة وضبط المجرمين، كما تفصل في بعض القضايا المستعجلة تجارية ومدنية.
وأما المحاكم القضائية فسلطتها أعلى ودائرتها أوسع وأشمل.
وقد كانت هذه المحاكم إلى حين بسط الحماية تتناول جميع القضايا التي تعرض للمغاربة المسلمين سواء في ذلك القضايا الشخصية وغير الشخصية، وكانت تتناول أعلى رأس في البلاد وتعلن أحكامها على السلطان نفسه في جميع القضايا التي ترفعها الرعية.
هذا وقضاتها مسمون من قبل السلطان ويرشحون للقضاء من قبل وزرائه.
وجاءت فرنسا فلم يرقها أن تظل سلطة السلطان ونفوذه الديني والمدني ممثلا في المغاربة عبر هذا الطريق ورأت أن غرضها الحقيقي من بسط الحماية على المغرب لا يتوقف مع هذه السلطة الواسعة الممتدة الجوانب وخصوصا سلطة القضاء الشرعي، وإنه إذا كان القضاء على هذه المؤسسات منذ اليوم الأول أمرا من الصعوبة بمكان فإن تضييق دائرتها والمضي في هذا التضييق كفيل بالقضاء عليها تدريجيا، وإعدادها للفناء من نفسها في يوم من الأيام”.