في المحبة أسرار مفاتيح القلوب د.صفية الودغيري

من اللَّطائف الربانية أن يُرزق الرجل بالزوجة الصالحة، وأن تُرزق المرأة بالزوج الصالح، فيتزوَّدا معا بزاد الزواج لبسط طريق الحياة والعيش في رَغْد وهناء، وليُكَثِّر كلٌّ منهما زادَه بزاد شريكه وزوجه، لا أن ينقص قدره ويبخسه حقَّه، ولا أن يفسد أرضه وزرعه وحرثه، بخبث ما يكدِّر به مجراه وماءه وترابه، ولا باجتثاث جذره من منبته، وكما قال بعض شعراء بني أسد:

وأوّل خبث الماء خبث ترابه   وأوّل خبث القوم خبث المناكح

وإنَّ دوام العشرة والثِّقة والمحبَّة بينهما ينبني على أن يراعي كل منهما حدود الله في أقواله وأفعاله وتصرفاته، وأن يلتزما الوفاء لعهدهما وميثاقهما الغليظ، والانضباط بالشروط والضوابط، وأداء الواجبات والحقوق، وما تعاهدا عليه من الصدق والأمانة والوفاء، والحفظ والستر وكتمان الأسرار، وقد روي عن عليّ بن زيد أنه قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (ثلاثٌ من الفَواقِر[1] : جارُ مُقامَةٍ، إنْ رأى حسنةً سترها، وإنْ رأى سيِّئةً أذاعها؛ وامرأةٌ إنْ دخلت لسَنَتْك [2]، وإنْ غبتَ عنها لم تَأْمَنْها؛ وسلطانٌ إنْ أحسنتَ لم يَحْمَدك، وإنْ أسأتَ قتلك) [3] .

كما يجب أن يشدَّ كلاهما لبنات الزواج ويسدَّ الفراغات والثقوب، ليتمَّ بناء الكلّ في تكامُلٍ وانسجام، وأن يقوّي كلاًّ منهما صُلْب من يقاسمه رزقه ومعاشه، ويشاركه أفراحه وأحزانه، ويشدَّ أزره وعضده وساعده، ولا يَقصِم ظهر من يتقوَّى به على مواجهة الشَّدائد، ولا يهضم حقَّه وواجبه، ولا يضعف همَّته ويكسر شوكته  ..

فتتزود هي بزاد هيبته، ويكون سلطانا عليها بتديُّنه والتزامه، ومَودَّته ورحمته، ورفقه وعطفه، لا بفساد تديُّنه وأخلاقه، وشِدَّته وقسوته، وأن يكون سلطانا عليها بقوامته على وجه الحقٍّ والإنصاف والعدل، لا على وجه الباطل والاستبداد والقهر، والجبروت والبطش، لهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الأَكْفاء من الرجال فقال: (إذا جاءكم مَن ترضَوْنَ دِينَه وخُلُقَه فزوِّجوه إلَّا تفعَلوا تكُنْ فِتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ).

وقد روي عن مُعَلَّى بن أيُّوب؛ قال: سمعت المأمون يقول: (إِنَّ أَوَّل العدل أَنْ يَعْدِل الرَّجل على بِطانَتِهِ، ثمَّ على الَّذين يَلونَهُم؛ حتَّى يَبْلُغَ العدل الطَّبقة السُّفْلَى)[4].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يَنْبَغِي لِلرَّجُل أَنْ يَكونَ في أَهْلِه مِثْل الصَّبِي، فإذا الْتُمِسَ ما عِنْدَه؛ وُجِدَ رَجُلا)[5]. وقيل لأعرابيّ: (فلانٌ يخطِب فُلانَة، قال: أَموسِرٌ من عقلٍ ودينٍ؟ قالوا: نعم، قال: فزوّجوه) [6].

وأن يتزوَّد هو بزاد هيبتها، ويكون سلطانا عليه بخطفات جمالها وحسنها، ورقيِّ ذوقها وتدبيرها وإدارتها، واحتوائه بمحبَّتها ولطفها ووداعَة خُلُقها، وحصافتها وحكمتها وحذاقتها، فهو أمام رجاحة عقلها وسداد رأيها، وبيانها وفصاحتها، كأنَّه مُختطَفٌ ومُسْتلَبٌ مجذوب، وهو أمام قوَّة احتوائها ودفء مشاعرها، ولطافة مودَّتها وحُسْن تودُّدها وتبعُّلها مُحِبٌّ ومَحْبوب، وقد قيل لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: (أيُّ النساءِ خيرٌ؟ قال: التي تسرُّه إذا نظر، وتطيعُه إذا أمر، ولا تخالفُه في نفسِها ومالها بما يكره) [7] .

وقديما قال بعض حُكَماء العرب: (ما أَعانَ على نَظْم مُروءاتِ الرِّجال كالنِّساء الصَّوالِح) [8] . وروي عن الأصمعيّ أنه قال: أخبرنا شيخ من بني العنبر قال: كان يقال: (النِّساء ثلاث: فهيِّنةٌ ليِّنةٌ عفيفةٌ مسلمةٌ تُعين أهلها على العيشِ ولا تُعين العيشَ على أهلها، وأخرى وِعاءٌ للولد، وأخرى «غُلٌّ قَمِلٌ»[9]  يضعه الله في عنق من يشاء ويفكُّه عمَّن يشاء. والرِّجال ثلاثة: فهيِّنٌ ليِّنٌ عَفيفٌ مسلمٌ، يُصدِر الأمور مَصادِرَها، ويورِدُها مَوارِدَها، وآخر ينتهي إلى رأي ذي اللُّبِّ والمقدرة فيأخذ بأمره، وينتهي إلى قوله، وآخر «حائِرٌ بائِرٌ»[10]، لا يأتمر لرُشدٍ، ولا يطيع مُرشِدًا)[11].

وقال خالد بن صفوان: (مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً؛ فَلْيَتَزَوَّجْها عزيزَةً في قومِها، ذَليلةً في نفسِها، أَدَّبَها الغِنى وأَذَلَّها الفقر، حَصانٌ من جارها، متحَنِّنةٌ على زَوْجِها)[12].

فهما معا في ارتباطهما الوثيق واختيارهما التديُّن الصحيح الغاية الأسمى والمقصد الأحمد لوصل ميثاقهما الغليظ، كأنهما قد أُسْرِي بهما في معارج الإيجاب والقبول، فهما في اتِّحادهما وتآلفهما روحا واحدة قد تشاكلت في منازل الوِفاق والتَّلاقي،  فجعل الله بينهما مودة ومحبة ورحمة، وجعل لهما من آياته تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ..) [13].

وسقاهما من شراب السَّعد شرابا عذبا صافيا، مستخرجا من رحيق وقُطار محبَّتهما، فصار لسانهما بنُثاره رطبا، وبذكره وشكره يلهج ويصدح، وبمحامده يغتبط ويطرب، ولا عجبَ لقلب هذا حاله وشأنه في الحب، إذ سكن لقلب يؤانسه وقد صفا وعائه وامتلأ بدرره وجواهره، وفرغ لمن اختصَّه وآثره فعين الله تحفظه وتحرسه من طرف كلِّ عائِن وخائن، إذ أودعه محبَّته وأسلسَ له قياده فارتقى مدارج السَّالكين الماضين في طريق طاعته، فشهد ما زرعه من روضات غنَّاء من بذر القرائح، إذ ارتضى لزوم مجالسه واهتدى بهداه إلى طريق المؤانسة به، وشدَّ وثاق قلبه بمن يسكن إلى وثاقه، وهو لروحه وبدنه سِترًا ولباسًا، وله حظٌّ ونصيب فيما رزقه، وفق الحقِّ والواجب فيما شرع له، وهو يصافيه ويصادقه، ويتلذَّذ معه بلذَّات محبَّة خالقه وصانعه، وهو يعينه على تحقيق تمام المحبَّة لتحقيق تمام الطاعة، ليحوز معه على المِنَح والمواهب بما كسباه وزرعاه، ومما تكلَّفاه من عناء المجاهدة وكُلفة المصابرة في رحلة المتاعب والمشاق، وما تحمَّلاه في استجماع ما هو مسلوب أو مُنْتهَب، ووصل ما ترغب إليه النفس وتتوق من رغائب الُّدنيا ومتعها الحلال ..

فالمحِبُّ لمحِبِّه هو الصَّاحب والرَّفيق الذي يؤنس وحشته، والذي يستجِمُّ في مستراحه الطيب ويستظِلُّ بظلِّه، ويميل إلى غصنه الرَّطيب فيتشابك الغصنان وتمتدّ فروعهما وتشتد، فهما من أصل كلمة طيبة اجْتنَت ثمرتها من شجرة طيبة مباركة، مصداقا لقول الحق سبحانه: (لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25))[14].

كأنَّهما يمثِّلان انعكاسا لدُرَّة محبَّتهما، وبزوغا باهِرًا وقويًّا لسَمْت صدقهما وصلاحهما وصفاء سريرتهما، وإخلاصهما في الرِّضا والطَّاعة يشِفُّ عن سطوع تقواهما من ظاهرهما وباطنهما، فيسري إلى أوصالهما دفئا، ويمتدُّ إلى أركان وجَنبات السَّكن الذي يجمعهما  ..

ومن لطيف المحادثة بأخبار من غبَر وما تحمله من الدُّروس والعِبَر، ما رُوي عن الحسن البصري أنه قال: “وقفتُ على بَزَّازٍ بمكَّة أشتري منه ثوبًا، فجعل يمدحُ ويحلِفُ، فتركته وقلت: لا ينبغي الشِّراء من مِثْلِهِ، واشتريت من غيره، ثمَّ حَجَجْتُ بعد ذلك بسنتين، فوقفت عليه، فلم أسمعه يمدح ولا يحلف. فقلت له: أَلَسْتَ الرَّجُل الَّذي وقفت عليه منذ سنوات؟ قال: نعم. قلت له: وأَيُّ شَيْءٍ أخرجك إلى ما أرى؟ ما أراك تمدح ولا تحلف!  فقال: كانت لي امْرَأَةٌ إِنْ جِئْتُهَا بِقَلِيلٍ نَزَرَتْهُ، وَإِنْ جِئْتُهَا بِكَثِيرٍ قَلَّلَتْهُ، فنظَر الله إِلَيَّ فأمَاتَهَا، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً بعدها، فإذا أردت الغُدُوَّ إلى السُّوق أخذت بمجامعِ ثيابي ثمَّ قالت:  يَا فُلان! اتَّقِ الله ولا تُطْعِمنا إِلا طَيِّبًا، إِنْ جِئْتنا بقليلٍ كَثَّرْناه، وإِنْ لم تَأْتِنَا بِشَيْءٍ أَعَنَّاكَ بِمِغْزَلِنَا”[15].

فلا عجَب من اتِّحاد القلوب على منهج الاهتداء والارتقاء إذا ما صلحت  النُّفوس واستقامت، وهذا يفسِّر أسرار الانعكاس والمقابلة بين ضِدَّين في الخير والشَّر، وما في صفاء الحبِّ وضيائه مما لا يسَع العقل إدراكه، أو بلوغ مرتقاه وشرح كنهه، ففي التّغريد لغة عجيبة لا يفهم إشاراتها الغريبة إلا من أوتي منطِق الطَّير في الشَّدو والتَّغريد، ولا ينجلي الظلام والتَّعتيم إلا عن قلوب استقبلت شمس المحبَّة واحتوت أنوارها ودفئها، فعرف ما لها من دليل اعتبار ينبئ عن جوهر سطوعها، بما يدفع  بيقينٍ شكَّه وارْتِيابه، وشكَّ المشكِّكين وارتياب المرتابين، ويلبِّي مقاصد القاصدين إلى تحقيق الغايات العظيمة من الزواج وتوثيق رباطه، ويحثُّ على وصله بميثاق غليظ لا يقطعه بمكر أو تغرير، ولم ينكث عهده ووفاقه بكذب أو تلفيق..

ومن أدرك هذا  وبلغ مبلغًا شريفا في مدِّ الجسور ووصل الأسباب بالأسباب وإن طالت أزمنة المشقَّة والإعسار، وجاهد في الله حقَّ جهاده وتقرَّب إليه ولزم طاعته ومرضاته، فلابدَّ وأن ينتصر بعد صبره، ويفلح في زواجه بوصل شروطه وأسبابه، ويهتدي بأنواره ومشارقه ويسري دفئه إلى روحه وروح من يصِل معه الليل بالنهار، ويشهد معه بعد شهود الضِّيق اتِّساعا وانبساطا في منازل المحبِّين الفَيْحاء، ويدرك معه ما كان عن إدراكهما محجوبا، ويكتحل بحُسن وبهاء ما يجلِّيه لعينهما وبصرهما، وما يكشفه لبصيرتهما مما كان عنهما مستورا ..

 

 

 [1]  الفواقر : الدَّواهي

 [2]  لسنتك : أخذتك بلسانها، وذكرتك بالسوء .

 [3]  عيون الأخبار/ أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) :4/4

 [4]  المجالسة وجواهر العلم/ أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي ت (333هـ) ـ المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان 3/300

 [5]  المصدر نفسه: 7/294

 [6]  عيون الأخبار: 4/11

 [7]  أخرجه النسائي (3231) واللفظ له، وأحمد (7421) وخلاصة حكمه : حسن صحيح

 [8]  عيون الأخبار: 4/2

 [9]  مثل يضر للمرأة السيئة الخُلُق،  الكثيرة المهر، لا يجد بعلها منها مخلصاكما ورد في مجمع الأمثال للميداني،

 [10]  يقل رجل حائر بائر: أي ضالٌّ تائه لا يتجه لشيء

 [11]  عيون الأخبار: 4/11

 [12]  المجالسة وجواهر العلم : 3/346 ـ347

 [13]  سورة الروم

 [14]  سورة إبراهيم

 [15]  المجالسة وجواهر العلم: 5/251

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *