يعاني طلبة القانون في الجامعات المغربية من عدة مشاكل علمية، نذكر منها: مشاكل الجدية، مشاكل النظرية، مشاكل التقعيد، مشاكل التطبيق.
– مشاكل الجدية:
وهذا عيب ليس بجديد، ولكنه تعزز في زمن السيولة بشكل كبير. الكسل، والتهاون، وانتشار ظاهرة الغش… كلها مظاهر تجعلنا في حاجة إلى طرح سؤال الجدية قبل أي شيء آخر. إن النص القانوني الذي نريد تجاوزه إلى ما قبله (النظرية) وما بعده (التطبيق)، هو ما نجد الطالب عاجزا عن فهمه وضبطه. إنها أزمة تحولات يشهدها المجتمع المغربي بالأساس، أزمة تحولات قيمية وأخلاقية يفرضها تفاعل المحلي (الوطني) مع العالمي (الرأسمالية المتوحشة).
– مشاكل النظرية:
المشكل على المستوى النظري ذو وجهين:
الضعف الشديد في الاهتمام بالنظرية، وغياب خط واضح عند المهتمين بها.
إن الضعف الشديد في الاهتمام بالنظرية هو ما نلاحظه في: مضامين الدروس التي يقدمها الأساتذة الجامعيون، ما يركز عليه الطلبة في تحصيلهم وبحثهم، نماذج الامتحانات والمباريات… حيث يتم التركيز على مضامين القواعد القانونية وما يتعلق بالتطبيق والتنفيذ، في غياب شبه كلي للنقاش النظري وما يتعلق به من اختلاف بين المدارس الفقهية.
أما غياب خط واضح عند المهتمين بالنقاش النظري، فلا أدل عليه من محاولة أحدنا الإجابة على الأسئلة التالية:
كم هو عدد الأساتذة الجامعيين الأوفياء لمدرسة فقهية دون باقي المدارس الأخرى؟
هل باستطاعتنا ادعاء وجود مدارس فقهية يحتدم بينها النقاش والاختلاف العلمي في الجامعات المغربية (والمقصود هنا: كليات الحقوق بالضبط)؟
إلى أي حد يمكننا أن ادعاء تنافس أطروحاتنا الجامعية في إثبات نظرية دون أخرى؟
…
نحن لا نعمم، ولا ننفي استثناء. فالاستثناء موجود، وهو لا يقاس عليه.
– مشاكل التقعيد:
مشاكل التقعيد من مشاكل التنظير، فكيف سيفهم أبعاد التشريع وجذوره التاريخية -اجتماعية وسياسية وثقافية-من لم يجد للنظرية مدخلا؟ لا يجتهد الفقيه بعيدا عن اجتهادات القاضي، ولا يجتهد هذا الأخير خارج المساحات التي يفسحها له الأول. ليس الفقيه والقاضي منفصلين عن بعضيهما، فهما معا وبترابطهما يشكلان الأساس الذي يبني عليه المشرع قواعده القانونية.
ليس فهم أبعاد التشريع وجذوره التاريخية بالشيء السهل، بل هو يطلب: قراءة سديدة في واقع التشريع، ومتابعة دائمة للعلاقة بين الفقيه والقاضي والمشرع.
– مشاكل التطبيق:
الممارسة العملية هي الأساس، وهي المقياس في نهاية المطاف.
لا يجتهد الفقيه لغير واقعه، ولا يشرع المشرع إلا لنفس هذا الواقع، ولا يحكم القاضي بالتنفيذ أو تعمل مؤسسات الدولة على التطبيق إلا فيه… لا تتم الحركة من الواقع إلى القاعدة القانونية في منحى واحد، ولكنها تتم في المنحى المعاكس أيضا. إنها دورة لا تتوقف من التقعيد والتعديل على أساس الواقع، وهي الدورة التي يشغل فيها التطبيق دور المقياس والاختبار.
تعديل القانون هو ما تفرضه الثغرات التي يكشف عنها التطبيق، كما تفرضه التحولات الطفيفة التي يشهدها المجتمع.
أما وضع قانون جديد فهو ما تفرضه تحولات اجتماعية وسياسية أكبر من أن تكون طفيفة.
النقاش في التطبيق والممارسة متعدد المداخل، وحسبنا أن أكدنا في هذه الأرضية على مدى أهميتهما في “الدراسات القانونية” بمختلف فروعها.
******
بالمثال يتضح المقال: القانون الدستوري
أولا: في الجدية
في مادة “القانون الدستوري” مثلا، يكون الطالب مطالبا بالجدية في الإحاطة بمختلف المباحث التالية:
– التعريف بالقانون الدستوري وتحديد علاقته بباقي القوانين والعلوم الأخرى.
– مفهوم الدولة: النظرية والتركيب.
– تعريف الدستور.
– أشكال الدساتير.
– وضع الدساتير وتعديلها.
– سمو الدستور ومراقبة الدستورية.
– كل ما يتعلق بالمشاركة السياسية.
– الأنظمة الدستورية
….
ثانيا: في النظرية
إن الحسم في مختلف المباحث المذكورة أعلاه، ليس بالأمر الهين.
فأول سؤال يُطرح هو سؤال فلسفي في الأصل:
هل الفلسفة المعتمدة في بناء التصورات مادية أم مثالية؟
وفي التركيب بين المادية والمثالية، تطرح عدة أسئلة لا مجال لطرحها هنا.
وفي مستوى أعمق من هذا، يجد الطالب نفسه أمام عدة نظريات في “المسألة الدستورية”: الثيوقراطية، نظريات العقد الاجتماعي، الليبيرالية، الماركسية…
والدراسة الجادة هي التي تحاول الإجابة على السؤال الأول، ومن ثم تتبنى نظرية على حساب نظريات أخرى، أو تركب بين مجموعة من النظريات الدستورية. وذلك، بعد دراسة جميع النظريات دارسة متأنية وفاحصة لا تبتعد عن الواقع الموضوعي بأي حال من الأحوال.
هنا بالضبط، سيجد الطالب نفسه أمام مدارس فقهية مختلفة، وأمام آراء متباينة تنتمي إلى المدرسة ذاتها.
ثالثا: في التشريع
إذا استوعب الطالب المادة الدراسية، وعرف فيما بعد أصولها النظرية بعمق، سيسهل عليه حينئذ معرفة الخلفية التي تحكم المشرع وهو يضع قواعد القانون الدستوري. فالمشرع يشرع وفق ما يلي:
– في إطار “نظار دستوري معين”.
– باعتماد نظريات مختلف المدارس الفقهية، أو على الأقل، اعتماد بعضها أو إحداها بعد تصورها جميعها (فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقول المناطقة).
– استحضار الأحكام الاجتهادية للقضاء الدستوري.
– مراقبة تحولات الواقع الموضوعي.
رابعا: في التطبيق
وهنا ينتقل الطالب من العام إلى الخاص، ومن المجرَّد إلى الواقعي. وهذه هي العملية التي تتم عبر عدة مراحل:
– تتبع مدى دستورية القوانين (الجنائي، التجاري، الإداري، الأسرة، الالتزامات والعقود، المالية…) والأحكام القضائية، وكذا تتبع مدى نجاعتها بالرجوع إلى متخصصيها.
– مراقبة مدى نجاعة قواعد القانون الدستوري في مجتمع يعيش عدة تحولات داخلية وفي علاقته بالتحولات الإقليمية والعالمية.
– التمرُّن على اقتراح تعديلات وفق ما يظهر من التحولات المجتمعية والقصور في النجاعة والفعالية.
…
ولعل من بين النقاشات المفتوحة اليوم بخصوص الدستور المغربي لسنة 2011، نجد نقاش “دسترة التعددية الثقافية واللغوية” في مجتمع مهدّد بالتفكك والاضطراب. وهذا نقاش مفتوح على عدة جبهات: مدى دستورية ونجاعة القوانين المنظمة لهذه التعددية، مدى مساهمة هذه “التعددية” في تحصين المكتسبات السياسية والثقافية للدولة المغربية في عالم يعيش عدة تحولات (سياسية وثقافية واقتصادية وجغرافية…)، اقتراح تعديل على أساس نتائج المبحثين السابقين…
******
هل سنقف مكتوفي الأيدي من غير أن نحرك ساكنا؟
ما هو المطلوب في عز هذه الأزمة الخانقة؟
المطلوب هو: تأسيس جامعة موازية تعمل على واجهتين:
– التربية والتخليق ومواجهة قيم السيولة.
– فتح نقاش جاد في مضامين الدروس القانونية التي تقدم في الجامعات المغربية، وكذا الأطروحات التي يتم إعدادها في هذه الجامعات.
ليس هذا كلاما دقيقا إلى حد الآن، بل إنه في حاجة إلى المزيد من التفصيل والتوضيح (مما لا يسمح به هذا المقال)، باستحضار واقع الجامعة المغربية بصفة عامة (بمختلف كلياتها ومعاهدها ومدارسها العليا ومؤسساتها).