عند حديثنا عن الانتحار وعن أسبابه، نجد أنه ظاهرة لها أسباب عدة وعوامل متنوعة، تتقاطع في نتيجة نهائية هي إزهاق الإنسان لروحه، في زمن ما، لسبب ما، بطريقة ما، من طرق قتل النفس وإنهاء الوجود على سطح هذه الأرض.
ومن بين هذه الأسباب المتشعبة لهذه الظاهرة الفلسفات المادية الحديثة، التي جعلت الإنسان إلها ومحورا للكون، وركيزة أساسية في أطروحاتها، ودراساتها، فهو المنطلق والمنتهى.
وفي خضم تكريس هذا التأليه الإنساني، ومحورية الإنسان في الأول، والإنسان في الأخير، والبحث عن راحته المفقودة عند الوجوديين وغيرهم بأي ثمن، وبأي طريقة أو سبيل، برزت لنا فلسفة الموت “فلسفة العبثية للحياة”.
ويتزعم هذه المدرسة العبثية الفيلسوف الوجودي والروائي الفرنسي “ألبير كامو”، الذي يعتبر من كبار منظري هذه النزعة، حيث كان يرى أنه لا وجود لمعنى الحياة، وأن الإنسان يعيش لحظات بعبثية مطلقة، تفرز عدم وجود جدوى، أو هدف، أو فائدة لكل ما يقوم به الإنسان من عمل أو مجهود، وأن كل هذا العمل عبارة عن هباء سيضيع سدىً بما أن نهاية البشر جميعا في الأخير هي الموت والعودة من جديد إلى العدم أو اللاشيء وبالتالي اختفاء أي أثر لذلك الشخص.
كما نجد أن هذا الفيلسوف الوجودي العبثي، يخلص إلى أننا جميعا نعيش حالة من “السيزيفية”1، فهو يرى أنه حتى يخرج الإنسان من مأزق المجهود الروتيني، مقترحا لذلك حله العبقري، الذي يكرس اليأس وفقدان الأمل، والضارب في الفطرة المزروعة في المخلوقات فطرة حب الحياة، وهو أن أمام البشر والبشرية حلّين فقط:
الأول: الانتحار والتخلّص من هذا الألم والانتحار هنا عنده هو الانتحار الفعلي بفصل الروح عن الجسد والتوجه مباشرة إلى النهاية (الموت) دون أن ننتظر قدومها.
أما الحل الثاني: فهو التمرّد والخروج تماماً عن المألوف واللامبالاة، وهو حل يقود بطبيعته إلى الانتحار، لأن الشخص المنتحر يكون في حالة من الخور والاكتئاب الحاد، حيث نجد أن هناك عدة دراسات أظهرت أن من مسببات قتل النفس الانغماس في حياة الملذات والشهوات والمادة، دون مراعاة للجانب الروحي للجسد.
فالشخص الذي يعاني من خواء روحي يستسلم لأقل صدمة من صدمات الحياة وظروفها القاسية، مما قد يتسبب له في قلق وحيرة وتصدع وصدمة، تنضاف إلى غياب هدف لوجوده، وفقدانه للتوازن، كل ذلك يغذي نظرة سوداوية للحياة، تدفع بالفرد في أحضان حبل مشنقة النفس، واضعا حدا لحياته.
فهنا يمكن أن نرى التقاطع بين القسم الإبليسي الشهير والفلسفات المادية، بتساؤلاتها المشككة والتي تؤدي بالإنسان إلى الخواء، وإلى اللاشيء، وإلى العبث وفقدان الأمل، ورؤية الحياة بنظارات سوداء لا نور فيها ولا شعاع، تنتهي في النهاية بوضع الشخص الذي استسلم لهاته الأوهام في أحضان الموت المأساوي.
وهنا يكمن الفرق بين التفاؤل والأمل كسنة نبوية، وصفة من صفات دين الإسلام، الذي يمنح الإنسان صفاء النفس وراحتها، ويحفز همته للعمل والضرب في الأرض دون قنوط ولا يأس أو استسلام، وبين هذه الفلسفات العبثية التي تقود الإنسان إلى الخواء والانهيار والاكتئاب الذي يدفع بصاحبه لحل واحد هو الانتحار.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان: “يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة”2.
………………………………………………
- السيزيفية: نسبة إلى شخصية يونانية أسطورية، وهو ذلك الرجل الذي يصور أنه يحمل صخرة كبيرة لأعلى أحد الجبال، ثم ما إن يصل للقمة حتى تعود الصخرة للتدحرج إلى الأسفل، ثم يعيد الكرة، في عقاب أبديّ ومجهود قاسٍ ليس له أي معنى ولا جدوى أو هدف يذكر.
- حديث عن أبي هريرة رواه ابن ماجه: 3536 وهو حديث صحيح “صحيح ابن ماجه: 2848”.