هل سيتم الاستغلال الخبيث لخطاب العرش مرة أخرى..

 

لا شك أن خطاب العرش من أهم خطابات المؤسسة الملكية، التي يخرج فيها العاهل المغربي بصفته ملكا للبلاد وأميرا للمؤمنين، للتواصل مع الشعب وتوجيه الحكومة، وإرسال الرسائل التي يقتضيها السياق العام والخاص الذي تعيشه البلاد.

وخطاب العرش لهذه السنة كان متميزا بقوة ما تضمنه من رؤى وتوجيهات هي بمثابة إعلان للمواقف من طرف القصر الملكي، في قضايا يحلو لأصحابها أن يزجو بالملك، أعانه الله على الخير، في تصفيات تحكمها الأيديولوجيا، ولا تكترث لهوية البلاد ولا لطبيعة الحكم الملكي المغربي.

وسننطلق من مسلمات تصر كثير من النخب المتعلمنة أن تجعلها محل جدل ونقاش لزعزعتها، وللتمكين لإديولوجيتها، متوارية خلف مبدأ سمو المواثيق الدولية، الذي أدخِل في سياق فوضى الربيع العربي إلى دستور 2011، هذا من جهة، ومن جهة أخرى التوسل بالدفاع عن حقوق المرأة التي يراد لها أن تخدم النظرة الغربية للأسرة والفرد، والتي تقبل بالأسرة المكونة من رجلين لواطيين أو امرأتين سحاقيتين، ومن جهة ثالثة ادعاء محاربة الفكر السلفي والتصدي للتطرف وذلك اكتسابا للمشروعية وتكميما للأفواه، في حين أن أغلبهم يعتبرون فتاوى علماء المغرب والمشهور من المذهب المالكي تطرفا، ويطالبون بأن يسود الملك ولا يحكم.

وهذه الأمور الثلاثة هي أضلاع مثلث أسود يُوَسِّعون مساحتَه على الدوام لِيبلَع تاريخ المغرب ودينه وهويته، مستغلين في ذلك الظرفية التي تعيش فيها الدولة المغربية بين سندان الضغوط الأجنبية ومطرقة الفساد المستشري في الطبقة السياسية والاقتصادية للبلاد.

أما المسلمات أو الحقائق فهي:

1- أن النظام المغربي هو نظام له تاريخ عريق في الإسلام، كان الملوك فيه يحكمون بين الناس بالشرع الإسلامي الحنيف، وحتى في الأمور الدولية والديبلوماسية كانت الكلمة الفصل للعلماء، وهنا لا نميز بين السلطان والعالم، لأن كلاهما يعتبر الشرع فوقه ومرجعه في بناء موقفه، إذ لم تكن العلمانية قد تسربت إلى بنيات المجتمع المغربي، ولا إلى طبقات الحكم والسياسة، ولهذا يؤكد العاهل، وفقه الله للخير، كل مرة أنه لن يحل حراما ولن يحرم حلالا.

2- أن العلماء كانوا بمثابة قضاة في “المجلس الدستوري” وقتها، يراقبون مدى ملاءمة القرارات والظهائر والمراسيم للشرع الحنيف، وهذا لم يكن رغما عن السلاطين المغاربة، إذ كان من هؤلاء السلاطين العلماء والفقهاء يحرصون على موافقة الشرع، ونأخذ بهذا الصدد واقعة لها أطراف لا تزال فاعلة إلى اليوم ونستشف هذا من:

3- بعد حرب تطوان 1276هـ/1860م صار من ذيولها -كما يذكر الأستاذ الكبير المحقق المدقق محمد المنوني رحمه الله في مظاهر يقظة المغرب الحديث- ظهور أشكال من الاقتراحات الإصلاحية وصَفها “بالمزعومة” ونعتَها بأنها: “الواردة من الخارج، وكان من أغربها طرح إشكالية حرية العقيدة في المغرب”، معلقا على الحدث بقوله: “وهو مطلب ظهر للمرة الأولى بواسطة اليهودي ذي الجنسية الإنجليزية السير موسى منتفيوري” ص:405.

ثم انتقل -أي المنوني- لمناقشة وثيقة تاريخية مُهمة يَرُدّ فيها السلطان الحسن الأول رحمه الله على رسالة وصلت إليه من طرف “دولي”، يطلب منه إقرار حرية المعتقد مرة ثانية، وذلك في سياق انعقاد مؤتمر مدريد، فكان مما جاء في جواب السلطان رحمه الله تعالى ما يلي: “فاعلموا أن ما ذكرتم من أن والدنا المقدس أعطى دلائل كثيرة من سماحته وإحسانه لغير المسلمين، وأنكم طامعون أن يكون لكم حرص على ذلك، مثل ما طلبه البابص(*) الكبير من إجراء حرية الأديان في المغرب: هو في هذا الوقت متعسر بل متعذر، وقد عرضنا ذلك على أعيان الدولة: علماء ديننا فنفروا منه وأنفوه، إذ لم يعتادوه في دينهم ولا عرفوه، وقالوا إن العمل بذلك على الإطلاق، يؤدي إلى كثرة الفتن والهرج والشقاق.

واحتجوا بأن الأمر الشائع المشهور، المقرر لذي الخاصة والجمهور، أن دين الإسلامية: الأمة المحمدية منقول بالسند الصحيح المتواتر، من أوله إلى الآن رواية الأكابر عن الأكابر، خصوصية تفضل بها الحق سبحانه حسبما اقتضته حكمته، وأبرزته عن سابق علمه وإرادته قدرته، يريد به كتابه القرآن العظيم، الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم”، تكفل الله به فهو محفوظ على ممر الأزمان، لا يلحقه تبديل ولا تغيير ولا يطرق ساحته بهتان، وعليه فحرية الأديان بالمعنى المعروف عند من قال بها، والحالة المقررة الشهيرة عند أربابها، خارجة عن الدين بالدليل والبرهان، مضادة له كما لا يختلف فيه إثنان، فلا سبيل إلى العمل بها، وإلا تبطلت الشريعة ولم يبق تعويل عليها (….)

وما ذكرتم من أن السلطان العثماني وافق على ذلك وأثبته من بعده، وأن السلطان سيدي محمد أنعم على موشي بكتاب التحرير: أجابوا عنه بأن ذلك -على فرض وجوده وصحته- لا يُلزم الأمة، لِما تقرر من أن المدار على ما ثبت بطريقته المعلومة وخصوصيته، والأمر في هذا بخلاف ذلك، فلا سبيل إلى العمل بما هنالك.

وأيضاً قد تقرر أن من قواعد دين الإسلام، وأركانه الشهيرة عند الخاص والعام، أن العلماء حكام على الملوك، والأمراء حكام على الناس، فتصرفات الملوك تعرض على الشرع، فما وافقه منها يقبل ويعتمد، وما لا فلا، إذ “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” کما ورد، على أن كتاب التحرير المشار إليه إن لم يُصرَّح فيه بشيء خاص، يُمكن حمله على التحرير من أمورٍ العمل بها غير مناف للدين، ولا خارج عن سنن المهتدين.” مظاهر يقظة المغرب ص410-411.

ينبغي أن ننتبه إلى كلام السلطان المولى الحسن رحمه الله عندما قال: “قد تقرر أن من قواعد دين الإسلام، وأركانه الشهيرة عند الخاص والعام، أن العلماء حكام على الملوك، والأمراء حكام على الناس، فتصرفات الملوك تعرض على الشرع”، وعلى ضوء هذا ينبغي أن نفهم قول أمير المؤمنين وفقه الله لكل خير: “بصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.

لكن الضغوط الأجنبية التي لم تنقطع ممارستها على الحكومات المغربية منذ حرب تطوان كما أسلفنا، لها أثرها ولها قوتها، فالعالم الغربي لم يعد دولا متناثرة في مسائل المرأة والأسرة والحريات والمعتقد، بل أصبحت له منظمات دولية، ضغط أذنابها في المغرب بقوة لترسيم مبدأ سمو المواثيق الدولية، حتى يقطعوا الطريق أمام أية محاولة للرجوع إلى الفقه المالكي كأساس لتشريع القوانين، وليسهل عليهم تتبع ما بقي في النظم القانونية موافقا لأحكام الشريعة بالنسخ والتبديل.

لذا، فإن أمير المؤمنين عندما قال في خطاب العرش: “ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”، فإنه قد أحال أمر تعديلات المدونة إلى السادة العلماء والمفكرين النزهاء وكل مدافع عن الهوية المغربية الحقيقية، فلا يعقل أن نترك للمجلس الوطني لحقوق الإنسان أن يعبث بما تبقى من تشريعات للأسرة المغربية، فالأولى أن يتصدى لموضوع الاجتهاد السادة العلماء في المجلس العلمي الأعلى، وفي الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الشرعية، ويقدموا تقاريرهم واجتهاداتهم المقاصدية.

إننا في المغرب بدون التشبث بالمرجعية الإسلامية للدولة لن نستطيع حماية خصوصيتنا والتي من أهم مقوماتها مؤسسة إمارة المؤمنين، التي لا تقيم لها الدول الغربية وزنا، فألمانيا اليوم، عندما تقرر غرفتها للصناعة والتجارة بالمغرب تنظيم مهرجان لتذوق البيرة (الخمر) في بلادنا، بلاد الإسلام بلاد إمارة المؤمنين، وذلك بمنطقة بوسكورة، فهل تكون في هذا تحترم إمارة المؤمنين؟؟

لحم الخنزير مصحوبا بالخمور، في بلاد يقر دستورها بكل وضوح أن دين الدولة الإسلام. يا لها من وقاحة تجاوزت كل الحدود!!

لا أحد يشك أن ألمانيا تعلم أن الخمر حرام في الإسلام، وممنوع تذوقها وشربها قانونا على المسلمين، وأن المغرب من الناحية المبدئية لا يمكن أن ينظَّم فيه مهرجان لتذوق الخمور، لكنها كباقي الدول الغربية تدفع بعجلة الليبرالية الشاملة في بلادنا حتى تهيمن القوانين العلمانية على السلوك والمعتقدات والشرائع.

سميناها وقاحة لأن الجهات الألمانية تعلم أن هذا المطلب سيحرج القصر الملكي، وتعمدت تكرار الطلب رغم أن السلطات رفضت الترخيص في سنة 2015 لذات المهرجان.

إننا اليوم نعلم يقينا أن الدول الإسلامية تتعرض لضغوط الدول المتحدة، التي أسَّست منظمتها وادعت لها صفت “الأممية والدولية”، والتي تستغل في الضغط على الدول، وتوجيه الشعوب وتفتيت هوياتها وخصوصياتها، لعلمها أن هذه الأخيرة تحول دون هيمنة الشركات متعددة الجنسيات والمتحكمة في القرارات السيادية في تلك الدول الكبرى.

فهل سيتحمل المسؤولية من ولاهم الله حماية الدين وبيان الأحكام والنصح لله ولرسوله ولعامة المؤمنين وأئمتهم؟؟ أم سيتركون الجهات المموّلة من الخارج والتي تسهر على التمكين لليبرالية المنفلتة والعلمانية الشاملة في بلادنا، يحررون التقارير ويرسلون التوصيات والدراسات للمصالح الرسمية التي ستتولى النظر في تعديل مدونة الأسرة، ليتم لهم مرة أخرى الاستغلال الخبيث لخطاب العرش، كما هو منهجهم في التعامل مع التوجيهات الملكية.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أي بابا الفاتيكان في وقته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *