بين الانتصار للنفس و العفو والصبر

 

السيرة النبوية زاخرة بالمواقف التربوية والفوائد الجليلة التي يستفيد المسلم منها في واقع حياته، ويحصل له التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.

ومن هذه المواقف موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين ردَّ أبو بكر على رجل وقع فيه بالسبِّ والشتم، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحلم والصبر وعدم الانتصار للنفس.

عن سعيد بن الْمُسَيِّب رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، وقع رجل بأبي بكر فآذاه (ذمه وسبَّه)، فصمَتَ عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمتَ عنه أبو بكر، ثم آذاه الثّالثة، فانتصر منه أبو بكر (ردَّ عليه)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوَجدْتَ عليَّ (أغضِبْتَ عليَّ) يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل ملَكٌ من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرتَ وقع الشيطان (حضر حين ذهب المَلَك)، فلم أكن لأجلس إذْ وقع الشّيطان). رواه أبو داود وحسنه الألباني.

لقد انتصر أبو بكر رضي الله عنه لنفسه من الرجل الذي وقع فيه وسبه -بعد المرة الثالثةـ، ولكن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أراد لأبي بكر الفضيلة وحصول الأجر والثواب، فالسبب الأول لقيام النبي صلى الله عليه وسلم وانصرافه بعد رد أبي بكر على الرجل الذي سبه وشتمه: أنه صلى الله عليه وسلم أراد لأبي بكر ألا ينتصر لنفسه ويرد على الرجل، وأن يأخذ بالأفضل، وبالكمال المناسب لمنزلته وفضله، والسبب الثاني في قيامه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحضر مجلسا حضر فيه الشيطان، وقد قال لأبي بكر: (فلما انتصرتَ (رددتَ) وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذْ وقع الشيطان).

قال العلماء بأن الانتصار للنفس جائز مع عدم التجاوز، والحلم وعدم الانتصار للنفس والعفو أفضل.

قال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40): “ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يجزيه أجراً عظيماً، وثواباً كثيراً، وشرَط اللهُ في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به، وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج (يبعث ويشجع) على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم”.

والحلم والعفو وعدم الانتصار للنفس أفضل، وهو دليل قوة لا ضعف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرَعة، إِنَّمَا الشَّدِيد الذي يَمْلِكُ نفسه عند الغَضَب) رواه البخاري. يقول ابن القيم في “مدارج السالكين”: “إن العبد يشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَل الناس من الحقوق في المال والنفس والعِرْض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة، ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *