نظرات في بعض مصادر الأدب (كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني) عبد المجيد آيت عبو

إن من أكبر الأخطار التي واجهت العالم العربي من خلال المذاهب والنظريات الواردة على أيدي دعاتها وحملة ألويتها: مسألة المصادر والرأي في كتب المحاضرات وما سجله الرواة والقصاصون من أخبار، وهل تصلح مصادر علمية يمكن الحكم عن طريقها على الأمم والمجتمعات حكما صادقا لا شبهة فيه.

ومن اليقين الذي لا شك فيه أن كتب المحاضرات وروايات القصاص ليست مصادر علمية صحيحة، وإنما هي مصادر زائفة اعتمد عليها خصوم الأدب العربي والمنهج الإسلامي من أجل ترويج آراء كاذبة مضللة، ذلك أن هذه المؤلفات لم يكتبها علماء موثوق بهم، ولم تكتب وفق أصول العلم والبحث، وإنما كتبت للتسلية والترويح، وقصد بها جمع الفكاهات والنكات والأحاجي والقِصص الصادق والكاذب لإغراق المجتمعات بالأوهام والأباطيل.
وقد ارتفع صوت العلماء المحققين بالتحذير من هذه المصادر الزائفة التي تجمع أخبار الندماء والجلساء والمغنين والصعاليك والمضحكين أمثال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، والمروزي، وابن المرزبان، وكذلك ما كتبه أبو بكر الصولي الذي كان من ندماء الراضي والمكتفي والمقتدر، وعرف بأنه من الظرفاء الجماعين. ومن هذه الكتب ثمار القلوب للثعالبي، وهو أديب يحب الفكاهة ويروي النكتة، وليس له اهتمام بالتمحيص والتحقيق. وقد كان من هؤلاء المؤلفين أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني.
فإن الكثير من الباحثين في مجال الأدب والتاريخ يعتبر كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي، تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، والواقع أن الكتاب وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء، وأودعه مجموعة من الأصوات الغنائية للترويح عليهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن، وأنه لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بأهل الصلاح والفضل من العلماء الفقهاء والزهاد والمؤرخين، وقد أكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جَمّاع للقصص الصحيح والزائف الذي جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف. قال فيه معاصره الحسن بن الحسين النوبختي: “كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس، كان يدخل سوق الوراقين وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري منها كثيرا من الصحف ثم يحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منها”. وكان يميل إلى الغلمان، ويشرب الخمر، مسرفا في الشهوات والملذات، وكان وسخا قذرا لا يعتني بنظافة جسمه وثيابه؛ قال عنه هلال بن المحسِّن كما نقل ذلك ياقوت في معجمه: “كان أبو الفرج الأصبهاني وسخا قذرا، لم يغسل له ثوبا منذ فصله إلى أن قطّعه، وكان الناس على ذلك يحذرون لسانه ويتقون هجاءه، ويصبرون في مجالسته ومعاشرته، لأنه كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه وفعله”. وقال عنه ابن الجوزي: “الغالب عليه رواية الأخبار والآداب، وكان عالما بأيام الناس والسير، وكان شاعرا، وصنف كتبا كثيرة منها: الأغاني.. روى عنه الدارقطني، وكان يتشيع، ومثله لا يوثق به وبروايته، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر”. وقال الذهبي: “رأيت شيخنا تقي الدين ابن تيمية يضعِّفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به”.
ومن آراء المحدثين فيه قول الأستاذ عبد العزيز البشري: “إن محاولة كشف الرجل عن آثاره المحفوظة لا تجدي كثيرا في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه.. فإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتا، وأنظفهم بدنا وثوبا.. ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرهاً، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خُلُقا وثوبا، حتى ليصح فيه قول الشاعر:
وَسِخُ الثَّوب والعمامة والبِـرْ *** ذَوْنِ والوَجه والقَفَا والغُلاَم”.
إن كتاب الأغاني وما شاكله من تلك المؤلفات ظلَّت مجهولة ضائعة حتى جاء المستشرقون في العصور الأخيرة فأعادوا طبعها وأذاعوها في العالم العربي كله، وأخرجوا أغلبها في طبعات فاخرة، وأوعزوا إلى تابعيهم من دعاة التغريب الإشادة بها والنقل منها واعتمادها مصدرا من مصادر التأليف.
يقول أحد الباحثين: “عجبت من جعل كتب الأدب التي يقصد بها عادة إلى الفكاهة ميزانا يوزن به رجال التاريخ وتؤخذ منه تراجم العظماء، ودهشت من جعل ما كان يفعله خلفاء العرب وقضاتهم على فرض ثبوته آية على تجرد العرب من الحضارة، ولو جعل آية على تجرد أولئك الخلفاء والقضاة أنفسهم من الفضيلة لكان أقوم سبيلا”.
ولا شك أن مثل هذه المصادر والمراجع لا تكون صالحة لإصدار أحكام عامة وتاريخية وحاسمة على النحو الذي أصدره طه حسين –وهو ليس بمؤرخ- اعتمادا على كتاب واحد وهو الأغاني، وعلى مجموعة من الشعراء الماجنين أمثال أبي نواس وبشار والضحاك وحماد عجرد، لأن يقول: إن القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون، وليس الأغاني في حقيقته مصدرا تاريخيا أو مرجعا علميا يمكن عن طريقه التماس الأحكام الحاسمة.
فطه حسين أشاد بكتاب الأغاني في الكثير من كتبه، وجعله من المصادر الهامة لدراسة المجتمع الإسلامي. يقول في كتابه حديث الأربعاء: “ادرُسْ هذا العصر درساً جيدا، واقْرَأْ بنوع خاص شعر الشعراء وما كان يجري في مجامعهم من حديث؛ تُدهشْكَ ظاهر ة غريبة هي ظاهرة الإباحة والإسراف في حرية الفكر وكثرة الازدراء لكل قديم، سواء أكان هذا القديم دينا أم خلقا أم سياسة أم أدبا”.
وقال: “لم يعرف العرب عصرا أكثر فيه أصحابه من المجون، وأتقن الشعراء التصرف في فنونه وألوانه كهذا العصر”. وقال مظهرا حبه وارتياحه للحالة التي صوّر بها تلك الحقبة: “إنما الذي يعنينا الآن أن هؤلاء الناس الذين وصفنا لك ما وصلوا إليه من شك في كل شيء، وإسراف في المجون واللهو، كانوا يجتمعون كثيرا أكثر مما كان يجتمع أسلافهم، وكانت اجتماعاتهم ناعمة غضة، فيها اللهو وفيها الترف، وكانوا لا يجتمعون إلا على لذة، إلا على كأس يدار أو إثم يقترف، وكانت اللذة والآثام حديثهم إذا اجتمعوا، يتحدثون فيها شعرا ونثرا، وكان الدين واللغة والفلسفة حديثهم أيضا، ولم تكن اجتماعاتهم تخلو دائما من النساء”.
وقال: “إن القرن الثاني للهجرة على كثرة من عاش فيه من الفقهاء والزهاد وأصحاب الشك والمشغوفين بالجد، إنما كان عصر شك ومجون وعصر افتتان وإلحاد عن الأخلاق المألوفة والعادات الموروثة والدين أيضا. وليس عندي شك أن هذا العصر لم يكن عصر إيمان ويقين في جملته، وإنما كان عصر شك واستخفاف، وعصر مجون واستهتار باللذات”.
والواقع أن هذا المنهج الذي سلكه المستغرب طه حسين لم يكن إلا محاولة لإغراق الأدب العربي في بحار من التغريب والشعوبية وتدمير كامل لمقومات هذه الأمة من خلال السبح في كتاب الأغاني واعتماده أساسا لرسم صورة اجتماعية للأمة العربية، وهي صورة زائفة مغرضة مضطربة بعيدة عن كل المناهج العلمية والنظرة المنصفة.
إن صاحب الأغاني رسم لوحة خُلِق معدنها من الكذب والتمويه، وصُنِعت مادتها من الضلال والبهتان. وهو يحدثنا في مقدمة كتابه أنه قصد من هذا الكتاب اللهو والتسلية قبل أن يقصد العلم والتاريخ، وما أورده من شعر الماجنين وحياتهم لا ينهض دليلا على فساد عقيدة عصر وأخلاقه؛ فإننا إذا تتبعنا سيرة الفقهاء والمحدثين والزهاد في هذا العصر وجدناهم على مرتبة عريضة من اليقين والورع والزهد والاحتشام، منهم الحسن البصري، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة النعمان، ومالك بن دينار، وعبد الله بن المبارك، وربيعة الرأي وابن سيرين والشعبي، فقد كانوا أنفع الناس للناس، وسيرتهم في العلم والزهد والتقوى يعرفها كل من عني بدرس حياتهم. فطائفة العلماء والفقهاء والمحدثين والزهاد مؤمنون محتشمون، وطائفة الشعراء والأدباء فيهم شك واستهتار ومجون إلا من رحم الله، فإذا أردنا أن نحكم على العصر يلزمنا أن نعرف: أطائفة الفقهاء والزهاد والمحدثين هم الذين يمثلون عصرهم ويعطون صورة صحيحة عنه أم طائفة الشعراء؟
إن القارئ لكتاب الأغاني يخيل إليه من كثرة مجون هؤلاء أنهم في جو يسيل فسقا ومجونا وإلحادا، لكن إذا تذكر أن صاحبه إنما عني بتاريخ طائفة واحدة فقط هم الشعراء المغنون، وليس ذلك تاريخا لسائر العصر؛ ليحمي نفسه من التورط في ذلك الحكم. وعلى الباحث أن يكون شديد الانتباه والتيقظ من النقل عن هذه الكتب التي ألح عليها المستشرقون ودعاة التغريب، وأولوها العناية، وأعادوا طبعها، وحرضوا أولياءهم من الـمُغَرِّبِين أن يتحدثوا عنها، وأن يحرضوا الباحثين على اعتمادها مراجع، وذلك لأنها تفسد الحقائق وترسم صورة غير صحيحة ولا صادقة للمجتمع الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع المقال
– أبو الفرج الأصبهاني وكتابه الأغاني، محمد عبد الجواد الأصمعي.
– دراسة الأغاني، شفيق جبري.
– الإسلام على مشارف القرن الخامس عشر، أنور الجندي.
– موسوعة مقدمات العلوم والمناهج (4/182-186) – أنور الجندي.
(اخصرت هذا المقال مما كتبه الأستاذ أنور الجندي في كتابه الإسلام على مشارف القرن الخامس عشر، ومن موسوعته في مقدمات العلوم والمناهج، مع شيء من التصرف، وأضفت إليه بعض الإضافات من المراجع المشار إليها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *