لقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أن وقوع الاختلاف في هذه الأمة أمر واقع لا محالة فقال تعالى: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ” هود.
ومع هذا القدر المقدور والإرادة الربانية الكونية، القاضية بحتمية الاختلاف فإن الله عز وجل أرشدنا، ونبهنا، وبين لنا الموقف من هذه الاختلافات؛ فأوجب الحذر منها، وعدم سلوك سبيلها وعدم اتباع مناهج أهلها؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذا الصدد: “وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة” اقتضاء الصراط المستقيم ص93.
قال سبحانه وتعالى آمرا بالاجتماع والاعتصام، ومحذرا من الاختلاف والتفرق: “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” آل عمران.
قال الإمام القرطبي:” فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هَلَكَة والجماعة نجاة.
ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
إِنَّ الجماعة حبل الله فاعتصموا—منه بعروته الوثقى لمن دانا”
وقال تعالى:” وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” الأنعام.
فأمر سبحانه وتعالى باتباع صراط واحد ونهى عن سلوك سُبُل و”إنما وحد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها” تفسير ابن كثير.
ومن أبلغ أساليب القرآن الكريم في التنفير من الفرقة وأهلها، بيان براءة النبي صلى الله عليه وسلم من كل ساع للفرقة بين المسلمين: “إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ” الأنعام.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:”خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: هذه سُبل، على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية” وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً..” رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني.
فعملا بهذه النصوص وأمثالها، كان أهل الحديث وأتباع منهج السلف من أشد الناس حرصا على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم؛ واتحاد صفهم؛ لا يدعون إلى حزبية ضيقة ولا إلى عصبية مقيتة، ولا إلى شعوبية جائرة، وإنما يصدرون عن الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ويجمعون الناس حولهما، فلا حزب لهم إلا حزب الله المفلحين، ولا جماعة لهم إلا جماعة المؤمنين، ولا أمير لهم إلا إمام المسلمين الذي عُقِدت له البيعة واستتب له الأمر؛ رحمة من عند الله سبحانه وتعالى بأصحاب هذا المنهج القويم فإن “أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء، فاته من الرحمة بقدر ذلك”. مجموع الفتاوى 4/25.
أما غيرهم من المشاقين للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم والمتبعين لغير سبيل المؤمنين، فما من فِرقة منهم ولا نحلة إلا وقد ابتدع أصحابها بدعة عقدية أو سلوكية أو سياسة، واجتمعوا عليها وعقدوا عليها ولاءهم وبراءهم وخالفوا جماعة المسلمين وانعزلوا عنهم؛ فالجهمية ومن خرج من رحِمِهم بَنَواْ دعوتهم على تعطيل صفات رب العالمين.. والخوارج على تكفير عصاة المسلمين والخروج عليهم وقتالهم.. والشيعة الروافض على تكفير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والولاء الكاذب لآل بيته.. والدعوات المعاصرة منها ما قام على السياحة في الأرض والدعوة بغير علم.. وأخرى على الخرافات والمنامات وثالثة على التفجيرات والاغتيالات، ورابعة على السياسات والحماسات بغير ضوابط شرعية ولا قواعد مرعية.. وكلهم يستمدون من ضلالات الفرق الضالة القديمة من تشيع وتجهُّم واعتزال وإرجاء وتصوف وخروج… ما بين مقل ومكثر، والله المستعان.
فهؤلاء كما اختاروا البدعة والضلالة وعدلوا عن السنة الغراء والمحجة البيضاء، فقد كتب الله عليهم الشقاق والنزاع والاختلاف جزاء وفاقا فإن “البدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة” الاستقامة 1/42
فكل خارج عن القرآن والسنة فهو مُسهم في الفرقة، كما قال تعالى:” ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ” البقرة.
ومن مظاهر نبذ السلفية للفرقة وتركها لكل أسبابها ودعوتها لجمع الكلمة ما يلي:
1- نشر العلم الشرعي: إذ أن أغلب الاختلافات ناتجة عن الجهل: وصدق من قال: “لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف”
2- الدعوة إلى الاتباع لأنه سبيل الوحدة، والتحذير من الابتداع لأنه سبيل التفرق.
3- ربط الناس بالقران والسنة وتحكيمهما في الخلافات بين المسلمين لحسم الأمور، وعدم التحاكم لرأي أو ذوق أو مذهب أو شيخ أو طريقة.
4- طاعة ولاة أمر المسلمين ومناصحتهم ومؤازرتهم وعدم الخروج عليهم ومنابذتهم بالسيف.
5- ترك سلوك سبيل الكافرين واتباع سَنَنِهم.
وغيرهما من السبل الشرعية الهادفة لجمع الكلمة على ما يريده الله عز وجل ويرضاه، لا على ما تهواه نفوسنا وأذواقنا ومصالحنا. والله الهادي إلى سواء السبيل.