عزيزي المدخن..
أيها الشاب القوي العزم، أيها الأب المسؤول، أيها الكهل الذي حنكته الأيام وأحكمت عقله التجارب…
هل غلبتكم لفافة!!
لست محتاجا إلى أن أبين خطر الدخان، أو أن أذكّر بأضراره الصحية، بل لعل أحدكم أن يكون أعلم بها مني، أو أن يكون عايش من أعراضه وأمراضه ما يغنيه عن كل تقرير وكل خطاب. لكني أحاول هنا أن أضع نفسي طرفا في الصراع، لأتصور القضية، لفافة صغيرة، في مواجهة إنسان عاقل راشد مكلف مسؤول، قطعة من ورق، أُحكم لفها، وحُشي جوفها، واستعرت سمومها، تأخذها بإرادتك، وتشعلها بأصابعك، لتحرق فيك العافية، وتكسر في نفسك الإرادة، وتهزم فيك القرار!!
تراها تحترق بين عينيك، وأنت تعلم أنها تحرق صحتك، وتشاهدها تذوي بين أصبعيك، وأنت تعرف أن سمومها تذيب جسدك، تقدم على شرائها والضمير يصرخ، والذات تؤنب، والطبيب ينصح، والواعظ يذكر، والزوجة تدعو وتتمنى، والأطفال يرجون ويأملون، والأمراض تتربص، والسيئات تكتب، والباري عز وجل ينظر، فتُتابعُ خطاك، وتلقي بدراهمك، وتمسكها بين يديك في عناد، وتمصها في إصرار، فيطأطئ الضمير، وتنطفئ الإرادة، وتتلاشى كل تلك الأصوات.
في هذه اللحظة بالذات، تتولد نشوة ممزوجة بندم، ومتعة ممزوجة بكره، وفرح مكدر بهزيمة الإرادة، ولذة مصاحبة للشعور بالذنب والإحساس بالضعف، فتزيد الهوة بين الشخص وضميره، ويفقد مزيدا من السيطرة على ذاته، والتحكم في شهوته، ويعلن هزيمته أمام الهوى، يعلنها هذه المرة، وفي كل مرة يخرج فيها علبة السيجارة، حتى يتعود الهزيمة، وتضعف فيه الهمة، وينقاد كما ينقاد الفرس الجموح الذي أرهقته السياط…
الكثير منا يعرف الأضرار الصحية لهذه اللفافة، لكن أشد أضرارها خطورة، وأكثرها فتكا وتدميرا هو ما تلحقه من أضرار نفسية واجتماعية، وما تتركه من آثار على السلوك والأخلاق.
إن أخبث ما تقوم به هذه القطعة الخبيثة أنها تضرب المثالية عند أبناء المدخن وزوجته، وهذه لعمري من أخطر ما يمكن أن يدمر الأسرة، ويشتت شملها، نعم، إن التدخين يشتت الأسرة، ويدمر بنيتها الاجتماعية، بضربه لأساس عظيم من أسس السلطة الأبوية، ألا وهي المثالية، أو القدوة.
إن الزوج في عين زوجته، والأب في عين أبنائه، هو القدوة التي يتبعونها، والسلطة التي يخشونها، والمثال الذي يحذون حذوه، والبطل الذي يفتخرون به، وهو عماد الأسرة وأساس نظامها، فإذا هوى هوت، وإذا فرط فرطت، وإذا رأى الأبناء أن أباهم يؤثر شهوته، وينقاد لرغبته، ولا يمنعه من ذلك إنكار المنكرين، ولا تحذير العاقلين، تلاشت مكانته، وضُربت مصداقيته، وأصبحت أقواله مردودا عليها بقول الشاعر:
أتنهى عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وأصبح حال هذه الأسرة كما قال الآخر:
إذا كان رب البيت للدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وأيضا فإن انهزام المدخن أمام لفافته، يجعله منقادا لرغباته، وعبدا لنزواته، إذ يألف تجاوز الحدود، واقتراف الخبائث، ويجد المبررات من نفسه، ويقوى في مواجهة تأنيب الضمير، ويصفق وجهه أمام الناس، فتجده في البداية متسترا، ثم لا يفتأ أن يصبح دخانه له شعارا، ورائحته بين الناس مألوفة، ويأخذ الدخان من أسنانه ولون شفتيه ما يكون سمة مصاحبة، وعلامة مميزة، فيألف من نفسه صفة العاصي، ويستثمر الشيطان هذا الإحساس، ويغذيه ويثريه، حتى تصبح المعاصي عنده شيئا معتادا، ويصير الذنب ذبابة يهشها عن أنفه، فيتهاوى في دركات المعاصي، ويخسر من أسرته وأولاده ودنياه وآخرته الكثير ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قد تكون هذه حال المدخن الذي انصرفت له الآن مخيلتك أو قد لا تكون هذه حاله، وليس ما ذكرته حتمي الوقوع، لكن السبب الذي ذكرته حتمي المسبب، وقد يتخلف المسبب لأسباب خارجية أخرى، وقد يسلك الإنسان طريقا ثم لا يمشي إلى آخرها، لكن من يفتح الباب يلج، ومن يمرر على الدار يعرج، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك، لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم” (جامع العلوم والحكم 1/385).
إن هذه اللفافة الخبيثة وهي في جيبك، لتسعى جاهدة في هدم دينك، وتدمير صحتك، وتشتيت أسرتك، وتفريق شملك، بل تجرك إلى النار جرا، فكم من بيوت شتتها، وكم من أمراض سببتها، وكم من أبناء أفسدتهم، أفلا تستيقظ! أفلا تعقل! ما الذي تنتظره منها، ليس لها والله إلا غايتان: إما أن ترمي بك على سرير المرض، أو تهوي بك في قعر جهنم، ارمها لا خير فيها، ارمها وحرر نفسك من أسارها، استعذ بالله منها كما تستعيذ به من الشيطان الرجيم، وتجنبها كما تتجنب المجذوم، وفر منها فرارك من الأسد.
أخرجها الآن من مخبئها الذي عششت فيه، ومزقها الآن بين يديك، لتخزى ويخزى صانعوها…
هذا رمضان قد أقبل، فأعلن النصر العظيم، وزف الفرحة إلى أهلك وأسرتك، وأرح صدرك ورئتيك، وحنجرتك وشفتيك، وتمتع برضا الضمير، وسرور النفس، وابتسامة الأهل، تعطر بالطيب، واستنشق الحياة، وامسح ذلك الماضي المليء بالدخان. واستغفر الله ربك، وابتسم فقد انتصرت على السيجارة.