سبق في أول هذه المقالات أن من أسباب البيوع الفاسدة أن تكون العين المعقود عليها محرمة. وفي هذا المقال سنذكر جملة من الأعيان التي ورد النهي عن بيعها وما يدخل في حكمها.
حكم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: “إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام”، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: “لا، هو حرام” ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: “قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه” متفق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: “فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول، ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثا، وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك.
فصان بتحريم النوع الأول: العقول عما يزيلها ويفسدها، وبالثاني: القلوب عما يفسدها بوصول أثر الغذاء الخبيث إليها، والغاذي شبيه بالمغتذي، وبالثالث: الأديان عما وضع لإفسادها. فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان”(1).
أما تحريم بيع الخمر فيدخل فيه تحريم كل مسكر سائلا كان أو جامدا. ومن ذلك هذه المخدرات: كالحشيش والهروين والكوكايين والأفيون ونحوها..، فإنها أفسدت الأخلاق وأضعفت العقول وأذهبت الأموال وأضاعت الأديان وهدمت الصحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وهذه الحشيشة(2) فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكسخان، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولاً تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنونًا بسبب أكلها”(3).
وأما الميتة “فهي كل ما لم يمت بذكاة شرعية، فشمل ما مات بغير ذكاة، وما مات بذكاة غير شرعية، وشمل ما لا تبيحه الذكاة كميتة الحمار”(4).
قال ابن القيم: “ويدخل في تحريم بيع الميتة: بيع أجزائها التي تحلها الحياة، وتفارقها بالموت كاللحم والشحم والعصب، وأما الشعر والوبر والصوف فلا يدخل في ذلك لأنه ليس بميتة ولا تحله الحياة، وكذلك قال جمهور أهل العلم: إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والليث والأوزاعي…، وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها”(5).
ويدخل في هذا الحكم: الحيوانات المحنطة التي أصلها ميتة، فبيعها محرم لدخولها في اسم الميتة.
وأما تحريم بيع الخنزير فيتناول جملته وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة. وإنما حرمه الله لما فيه من المضار العظيمة “فإن الله حرم الخبائث من المطاعم إذ هي تغذي تغذية خبيثة توجب للإنسان الظلم، كما إذا اغتذى من الخنزير والدم والسباع، فإن المغذى شبيه بالمغتذى به، فيصير في نفسه من البغي والعدوان بحسب ما اغتذى منه(6)”(7).
“وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت ومن أي نوع كانت صنما أو وثنا أو صليبا، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها”(8).
وكذلك يحرم بيع الكتب المضلة الداعية للبدع، وكذا الكتب المدمرة للأخلاق مثل المجلات والصحف التي تشتمل على صور خليعة مغرية مفسدة للأخلاق، وعلى هذا الفتوى عند أجلة علماء العصر(9).
والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- زاد المعاد (662-661).
2)- الحشيشة: نبات حولي له جذور عمودية وسيقان عشبية منتصبة الشكل، يكثر ظهوره في شبه القارة الهندية وجبال الصين وإيران وتركيا ولبنان، والمناطق الحارة والمعتدلة في إفريقيا الشمالية والجنوبية.
3)- مجموع الفتاوى (130/34).
4)- فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام لابن عثيمين، ص: 462، باختصار.
5)- زاد المعاد (668/5).
6)- ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة، إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء، لا يعاف شيئا (19/20).
7)- مجموع الفتاوى (340/20).
8)- زاد المعاد (673/5).
9)- انظر لمزيد الفائدة ما كتبه الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان في مقدمة كتابه “كتب حذر منها العلماء” فإنه نافع جدا
يُتبع