لمَّا كانت اللغة تنقسم قسمين:
أحدهما: الظاهر الذي لا يخفى على سامعيه ولا يحتمل غير ظاهره.
والثاني: المشتمل على الكنايات والإشارات والتجوزات، وكان هذا القسم هو المستحلى عند العرب، نزل القرآن بالقسمين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله، فكأنه قال: عارضوه بأي القسمين شئتم، ولو نزل كله واضحاً لقالوا: هلا نزل بالقسم المستحلى عندنا، ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية أو استعارة أو تعريض أو تشبيه كان أحلى وأحسن.
قال امرؤ القيس:
وما ذرفت عيناكِ إلا لتقدحـي *** بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل
فشبه المنظر بالسهم فحلى هذا عند السامع.
وقال أيضاً:
فقلت له لما تمطى بصُلبه *** وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فجعل الليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه.
وقال الآخر:
من كميت أجادها طابخاهـا *** لم تمت كل موتها في القدور
أراد بالطابخين الليل والنهار.
فنزل القرآن على عادة العرب في كلامهم.
فمن عادتهم التجوز، وفي القرآن: “فما ربحت تجارتهم”، “يريد أن ينقض”.
ومن عاداتهم الكناية، “ولكن لا تواعدوهن سراً”، “أو جاء أحد منكم من الغائط”.
وقد يكون عن شيء ولم يجر له ذكر: “حتى توارت بالحجاب”.
وقد يصلون الكناية بالشيء وهي لغيره: “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين”.
ومن عاداتهم الاستعارة: “في كل واد يهيمون”، “فما بكت عليهم السماء والأرض”.
ومن عاداتهم الحذف: “الحج أشهر معلومات”، “واضرب بعصاك الحجر فانفلق”، “واسأل القرية”.
ومن عاداتهم زيادة الكلمة: “فاضربوا فوق الأعناق”.
ويزيدون الحرف: “تنبت بالدهن”.
ويقدمون ويؤخرون: “ولم يجعل له عوجاً قيماً”.
ويذكرون عاماً ويريدون به الخاص: “الذين قال لهم الناس”، يريد نعيم بن مسعود، وخاصاً يريدون به العام: “يا أيها النبي اتق الله”. وواحداً يريدون به الجمع: “هؤلاء ضيفي”، “ثم يخرجكم طفلاً”. وجمعاً يريدون به الواحد: “إن نعفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة”.
وينسبون الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما: “نسيا حوتهما”، “يخرج منهما اللؤلؤ”.
وينسبون الفعل إلى أحد اثنين وهو لهما: “والله ورسوله أحق أن يرضوه”، “انفضوا إليها”.
وينسبون الفعل إلى جماعة وهو لواحد: “وإذ قتلتم نفساً”.
ويأتون بالفعل بلفظ الماضي وهو مستقبل: “أتى أمر الله”.
ويأتون بلفظ المستقبل وهو ماض: “فلم تقتلون أنبياء الله”.
ويأتون بلفظ فاعل في معنى مفعول: “لا عاصم اليوم”، “من ماء دافق”، “في عيشة راضية”.
ويأتون بلفظ مفعول بمعنى فاعل: “وكان وعده مأتياً”، “حجاباً مستوراً”، “يا موسى مسحوراً”.
ويضمرون الأشياء: “وما منا إلا له مقام معلوم”: أي من له.
ويضمرون الأفعال: “فقلنا اضربوه ببعضها” فضربوه، ويضمرون الحروف: “سنعيدها سيرتها”.
ومن عاداتهم: تكرير الكلام، وفي القرآن: “فبأي آلاء ربكما تكذبان”. وقد يريدون تكرير الكلمة ويكرهون إعادة اللفظ فيغيرون بعض الحروف، وذلك يسمى الاتباع، فيقولون: أسوان أتوان: أي حزين، وشيء تافه نافه، وإنه لثقف لقف، وجايع نايع، وجلّ وبلّ، وحياك الله وبياك، وحقير نقير، وعين جدرة بدرة: أي عظيمة، ونضر مضر، وسمج لمج، وسيغ ليغ، وشكس لكس، وشيطان ليطان، وترقوا شذر مذر، وشغر بغر، ويوم عك لك: إذا كان حاراً، وعطشان نطشان، وعفريت نفريت، وكثير بثير، وكز ولز وكن أن، وحار جار يار، وقبيح لقيح شقيح، وثقة تقة نقة، وهو أشق أمق حبق: للطويل، وحسن بسن قسن، وفعلت ذلك على رغمه ودغمه وشغمه، ومررت بهم أجمعين أكتعين أبصعين.
وقد تأتي بكلمة إلى جانب كلمة كأنها معها وهي غير متصلة بها، في القرآن: “يريد أن يُخرجكم من أرضكم”، هذا قول الملأ فقال فرعون: “فماذا تأمرون”، ومثله: “أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين”، فقال يوسف: “ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب”. ومثله: “إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة”، انتهى قول بلقيس، فقال الله عز وجل: “وكذلك يفعلون”، ومثله: “من بعثنا من مرقدنا”. انتهى قول الكفار، فقالت الملائكة: “هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون”.
وقد تجمع العرب شيئين في كلام فيرد كل واحد منهما إلى ما يليق به، وفي القرآن: “حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب”. والمعنى يقول المؤمنون “متى نصر الله”، فيقول الرسول: “ألا إن نصر الله قريب”. ومثله: “ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله”. فالسكون بالليل وابتغاء الفضل بالنهار. ومثله: “وتعزروه وتوقروه وتسبحوه”، فالتعزير والتوقير للرسول والتسبيح لله عز وجل.
المدهش لابن الجوزي