من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة بيوع الغرر: الحلقة العاشرة ياسين رخصي

سبق في الحلقة الماضية الكلام عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل ما لا يملك ليمضي فيشتريه ويسلمه، كما روى أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك”.
وفي هذه الحلقة نتكلم عن مسألة أخرى دل عليها هذا الحديث، وهي: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن. ذاكرين بعض ما ورد من النصوص في هذا المعنى.
قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل سلف وبيع.. ولا ربح ما لم يضمن” أي لا يحل لمن اشترى شيئا أن يبيعه ويربح فيه حتى يقبضه ويحوزه ويدخل في ضمانه، فإن السلعة قبل قبضها يكون ضمانها على البائع لو تلفت، فإذا باعها المشتري قبل قبضها فقد ربح فيما لم يضمن.
قال ابن القيم مبينا علة نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: “والنهي عن ربح ما لم يضمن قد أشكل على بعض الفقهاء علته، وهو من محاسن الشريعة، فإنه لم يتم عليه استيلاء ولم تنقطع عُلَق البائع عنه ـ أي عن المبيع ـ فهو يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه فإنما يُقبضه على إغماض وتأسف على فوت الربح، فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها عنه، وهذا معلوم بالمشاهدة، فمن كمال الشريعة ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستقر عليه ويكون من ضمانه، فييأس البائع من الفسخ وتنقطع علقه عنه”(1).
ذكر بعض ما ورد من النصوص في هذا المعنى:
الحديث الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “قدم رجل من الشام بزيت فساومته فيمن ساومه من التجار حتى ابتعت منه، فقام إليَّ رجل فأربحني حتى أرضاني، فأخذت بيده لأضرب عليها فأخذ رجل بذراعي من خلفي فالتفت إليه فإذا بزيد بن ثابت، فقال لي: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فأمسكت يدي”(2).
وعن زيد بن ثابت “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم”(3).
قال ابن القيم رحمه الله معللا النهي: “.. وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع، وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيه، فيغره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع، وأكد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يضمن، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع”(4).
الحديث الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون ـ يعني الطعام ـ جِزافا (والجِزاف: ما لا يعلم قدره على التفصيل) يُضْرَبون أن يبيعوه في مكانهم حتى يُؤووه إلى رحالهم”(5).
بوب البخاري لهذا الحديث بقوله: “باب من رأى إذا اشترى طعاما جِزافا ألا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك”.
قال الحافظ: “أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله. ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول فَلِما ثبت عن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود.
وأما الثاني فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن عمر: كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه”(6).
وسيأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى ذكر مزيد من النصوص التي وردت في هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- أنظر عون المعبود (6/362ـ361).
2)- رواه أبو داود وأحمد.
3)- رواه أبو داود والدارقطني.
4)- أعلام الموقعين (5/41).
5)- رواه البخاري ومسلم.
6)- فتح الباري (4/443).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *