{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} النور، كلماتٌ ربّانية جاءت لتلخّص أحداثاً عاش المسلمون في ظلّها أياماً عصيبة، وفتنةً كادت أن تورد الناس موارد الهلكة، وإشاعاتٍ مغرضة استهدفت بيت النبوة، وأرادت تشويه صورته النقيّة التي ظلّت محفوظةً في صدور المؤمنين، ولم يكن المقصود منها الوقوف عند شخص النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته، بل أُريد بها الطعن في نبوته ورسالته والإسلام.
جرت فصول هذه الحادثة في وقتٍ كان المسلمون فيه على موعدٍ مع العدوّ في إحدى الغزوات، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه مصطحباً معه عائشة رضي الله عنها، وفي طريق العودة توقّف الجيش للراحة والنوم، وجلست عائشة رضي الله عنها في مركبها تترقّب لحظة المسير، وتلمّست نحرها لتكتشف أنها أضاعت عقداً لأختها كانت قد أعارتْها إياه، فما كان منها إلا أن نزلت من مركبها لتبحث عنه في ظلام الليل، ولم تكن تدري أن المنادي قد آذن بالرحيل، وأن الرجال قد جهّزوا رحلها ظانّين أنها بداخله، وأن الجيش قد انطلق وتركها وحيدة في تلك الصحراء الموحشة.
وما أن وجدت العقد حتى عادت مسرعة لتلحق بركب الجيش، ولكن الوقت فات، حيث لم تجد سوى الآثار التي خلّفوها وراءهم، فحارت ولم تدر ما تصنع، ثم فكّرت في العودة إلى موضع مركبها لعلّ الجيش يفتقدها ويرسل من يأتي بها، وهكذا فعلت، وجلست هناك حتى غلبها النوم في مكانها.
وفي هذه الأثناء، كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يسير خلف الجيش ليحمل ما سقط من المتاع، فأدركه الصباح في الموطن الذي كان فيه الجيش، وإذا به يرى سواد امرأة نائمة، فعرف أنها عائشة رضي الله عنها، والتي أحسّت به فغطّت وجهها، تقول عائشة رضي الله عنها: “فوالله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه شيئاً غير قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون”، فنزل عن راحلته وطلب منها أن تصعد، ولما ركبت الناقة انطلق بها مولّيا ظهره لها، حتى استطاع أن يدرك الجيش في الظهيرة.
ولم تمضِ سوى أيام قليلةٍ حتى انتشرت في المدينة إشاعاتٌ مغرضة وطعوناتٌ حاقدة في حقّ عائشة رضي الله عنها، روّجها ونسج خيوطها زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول، ووجدت هذه الافتراءات طريقها إلى عدد من المسلمين، الذين تلقّوها بحسن نيّة ونقلوها إلى غيرهم.
وبلغت تلك الأحاديث سمع النبي صلى الله عليه وسلم فكان وقعها عليه شديداً، وعلى الجانب الآخر، لم تكن عائشة تدرك ما يدور حولها من أقاويل الناس، فقد حلّ بها مرض ألزمها الفراش طيلة هذه المدّة، إلا أنها أحسّت بتغيّرٍ في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي ليلة من الليالي خرجت عائشة رضي الله عنها مع أم مسطح إلى الصحراء لقضاء الحاجة -كعادة النساء في ذاك الزمان-، فتعثّرت أم مسطح بثوبها وقالت: تعس مسطح، فاستنكرت عائشة منها هذا القول وقالت: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟، وعندها أخبرتها أم مسطح بقول أهل الإفك.
وكانت مفاجأةً لم تخطر لها على بال، وفاجعةً عظيمة تتصدّع لها قلوب الرّجال، فكيف ببنت السادسة عشرة؟ وهي تسمع الألسن توجّه أصابع الاتهام نحو أغلى ما تملكه امرأة عفيفة، فكيف بزوجة نبي الله وخليل الله؟
وكان من الطبيعي أن تؤثّر هذه الإشاعة على صحّة عائشة رضي الله عنها فتزداد مرضاً على مرض، ولم يمنعها ذلك من الوقوف على ملابسات القضيّة، فبمجرّد أن عادت إلى البيت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب لأبويها، فلما رأتها أمها قالت: ما جاء بك يا بنية فقصّت عليها الخبر، وأرادت الأم أن تواسيها فبيّنت لها أن هذا الكلام حسدٌ لها على جمالها ومكانها من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يعد هناك مجال للشك، فها هي والدتها تؤكّد ذلك، وعَظُم عليها أن تتخيّل الناس وهم يتحدثون في شأنها، تقول عائشة رضي الله عنها: “..فبكيت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت”.
وطال انتظار النبي صلى الله عليه وسلم للوحي فاستشار علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، أما أسامة فأخبره بالذي يعلمه من براءة أهله، وأما علي فقد أحسّ بالمعاناة التي يعيشها النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يريح خاطره، فأشار عليه بأحد أمرين: إما أن يفارقها ويتحقّق من براءتها لاحقاً، وحينها يمكنه إرجاعها، وإما أن يطّلع على حقيقة الأمر بسؤال بريرة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وقال لها: (هل رأيت من شيء يريبك)، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما علمت فيها عيباً، ثمّ ذكرت صغر سنّها وأنّها قد تغفل عن العجين الذي تصنعه حتى تأتي الشاة تأكله، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمرها فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً.
وكانت هذه الشهادات كافيةً أن يصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، ويطلب العذر من المسلمين، في رأس الفتنة عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك بقوله: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلاً يعني صفوان بن المعطّل ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربتُ عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وقد أخذته العصبيّة فقال لسعد: كذبت، لا تقتله ولا تقدر على قتله، واختلف الأوس والخزرج، وكاد الشيطان أن يُوقع بينهم، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدّئهم حتى سكتوا.
وبعد أن بلغت القضيّة هذا الحدّ، لم يكن هناك مفرّ من الذهاب إلى عائشة رضي الله عنها لمصارحتها بالمشكلة واستيضاح موقفها، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ومعها امرأة من الأنصار، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وتشهّد ثم قال: (أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)، فلما سمعت قوله جفّت دموعها، والتفتت إلى أبيها فقالت: أجب رسول الله فيما قال، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- “، ثم التفتت إلى أمّها فكان جوابها كجواب أبيها، وعندها قالت: “لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم أني منه بريئة -والله يعلم أني منه بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقنّني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف).
وأبا الله سبحانه وتعالى إلا أن يخلّد ذكرها إلى يوم القيامة، وإذا بالوحي يتنزل من السماء يحمل البراءة الدائمة، والحجة الدامغة في تسع آيات بيّنات، تشهد بطهرها وعفافها، وتكشف حقيقة المنافقين، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (النور).
وانفرج الكرب، وتحوّل حزن الرسول صلى الله عليه وسلم فرحاً، فقال لها: (أبشري يا عائشة، أمّا الله عز وجل فقد برّأك)، وقالت لها أمها: قومي إليه، فقالت عائشة رضي الله عنها امتناناً بتبرئة الله لها، وثقةً بمكانتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته لها: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزوجل.
إن الحديث عن الإفك الذي رميت به أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق ما هو إلا حلقة من حلقات التآمر على الدعوة، ومحاولة تشويه رموزها؛ وذلك لعلم العدو أن هذا الدين يقوم على المثال والنموذج والقدوة، فإذا أفلح في إسقاط هذا النموذج وتشويه تلك القدوة، فقد تحقّق له ما أراد، فمتى نعي ذلك؟