لا شك أننا في زمن انحلت فيه الأخلاق، وضاعت فيه الآداب، ورق فيه التدين، وأسباب ذلك كثيرة جدا ومن أعظمها فقدان الرفقة الصالحة والصحبة الطيبة لأن هذه الأخيرة من الوسائل المعينة على محاسن الأخلاق وحسن الآداب، وعلى قوة التدين، وكما قيل قديما: الصاحب ساحب، وما ذلك إلا لأن الطبع لص يسرق من الطبع الآخر الخير والشر.
قال عليه الصلاة والسلام: “إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير -الحداد-، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة” رواه البخاري ومسلم..
وليعلم أن دين المرء وأخلاقه على قدر من يصاحب ويخالل.
قال عليه الصلاة والسلام: “الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” صحيح الجامع.
وقد قيل قديما: قل لي من تصحب أخبرك من أنت.
قال الناظم:
أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكرا جميلا
ومما يدل على فضل صحبة الأخيار أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام المرء مع من أحب” رواه البخاري ومسلم.
فليحرص المرء إذن على صحبة الأخيار وليحذر من صحبة الأشرار، فإن الصحبة السيئة تضع رفيقها على شفا جرف هار وسرعان ما ينهار به في نار جهنم عياذا بالله.
قال تعالى: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً”.
فرفقاء السوء وبال على المرء في الدنيا والآخرة.
قال مالك بن دينار رحمه الله: “إنك لإن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص – حلوى تصنع قديما من الدقيق والتمر والسمن- مع الفجار”.
وقال أبو الأسود الدؤلي: “ما خلق الله خلقا أضر من الصاحب السوء”.
وقال ابن حبان رحمه الله في روضة العقلاء: “العاقل لا يصاحب الأشرار لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار تعقب الضغائن، ولا يستقيم وده، ولا يفي بعهده، وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار”.
وقد قرر العلماء ما ذكره ابن حبان رحمه الله من أن صحبة الكلب أفضل من صحبة صاحب السوء لأن هذا الأخير لا يدوم وده ولا يفي بعهده بخلاف الكلب فإنه يبقى وفيا لصاحبه الذي أحسن إليه، فهذا الإمام أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان البغدادي رحمه الله ألف رسالة سماها “فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب”، وقد ذكر ذلك كذلك الإمام السيوطي رحمه الله في رسالة له سماها: “الشهاب الثاقب في ذم الخليل والصاحب”.
فالعاقل إذن هو الذي يلزم صحبة الأخيار ويفارق صحبة الأشرار لأن مودة الأخيار سريع اتصالها ومودة الأشرار سريع انقطاعها.
قال عليه الصلاة والسلام: “لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي” صحيح الجامع.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: “لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تنتفع به في أمر دنياك أو رجل تزيد معه وتنتفع به في أمر أخراك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير”.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “صاحب أهل الدين وصافهم واستفد من أخلاقهم وأوصافهم”.
ومع قولنا أن المرء ينبغي عليه أن يحرص على صحبة أهل الخير إلا أننا نقرر أن ذلك قد عز وجوده في هذا الزمن حتى صار الصاحب الصالح كالكبريت الأحمر كما يقال.
قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: “نراك كثير الزيارة للقبور فقال: أجلس إلى قوم يُذكرونني معادي، وإذا غبت عنهم لا يغتابونني”.
وقيل لإبراهيم بن أدهم لما لا تصحب الناس فقال: “إذا صحبت من هو أعلى مني تكبر علي، وإذا صحبت من هو مثلي حسدني، وإذا صحبت من هو دوني لم يعرف حقي، فصحبت نفسي”.
قال الناظم:
سمعنا بالصديق ولا نراه *** على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالا جوزوه *** على الوجه المجاز من الكلام
لكن لا يعني هذا بحال أن لا يبحث المرء عن صاحب صالح أو عن رفقة طيبة، فمن علم الله جل وعلى منه الخير والحرص على ذلك وفقه إليه.
والصحبة الصالحة قائمة على دعائم وأسس:
أولها: الإخلاص لله جل وعلا.
فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل
ثانيها: أن تكون الصحبة قائمة على المحبة في الله ولله، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:” من سرَّه أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله”.
ثالثها: الصبر، قال تعالى: “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً”.
ولا يلزم من هذا كله أن يكون الصاحب لا زلل له ولا خطأ، لأن العبرة بغالب حال المرء كما بينه الذهبي رحمه الله في السير.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “من بحث عن أخ لا زلل له بقي بلا أخ”.