عناية الله تعالى بعباده وهدايته لهم إلى طريق الرشاد والخير من أوضح وأجلى الأمور، فقد أعطاهم العقول ليعرفوا بها سبل الهداية، وفطرهم على الإيمان وقبوله، وأرسل لهم الرسل الكرام مبشرين ومنذرين، هادين ومعلمين، وأنزل معهم الكتب زيادة في الهداية والدلالة، وشرع في كل كتاب أنزله ما يناسب أحوال المنزل عليهم، كما قال تعالى: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً”.
والإيمان بالكتب المنزلة ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، ولا يصح إيمان الإنسان إذا جحد ذلك.
والمراد بالكتب المنزلة هي التي أنزلها الله تعالى على رسله رحمة للخلق وهداية لهم، ليتمكنوا من تحصيل السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالإيمان بالكتب المنزلة على رسله، المطهرة من كل باطل وزور، فقال جل جلاله: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة.
والإيمان بالكتب يتضمن عدة أمور:
الأول: التصديق الجازم بأنها كلها منزلة من عند الله عز وجل على رسله إلى عباده، بالحق المبين والهدي المستبين.
الثاني: الجزم بأنها كلام الله عز وجل لا كلام غيره، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد، فمنها المسموع من وراء حجاب بدون واسطة، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى، ومنها ما يسمعه المَلَكُ من الله، ويأمره بتبليغه إلى الرسول: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} النحل..
الثالث: الإيمان الإجمالي بأن الله تعالى أنزل كتبا على أنبيائه ورسله ولم يسمها لنا، ولا يجوز أن ننسب كتابا إلى الله تعالى سوى ما نسبه إلى نفسه مما أخبرنا به عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} البقرة.
الرابع: الإيمان التفصيلي بالكتب التي سماها الله تعالى في القرآن أنها منزلة من عند الله تعالى، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن العظيم..
الخامس: الإيمان بكل ما فيها من الشرائع وأنه كان واجبا على الأمم الذين أنزلت هذه الكتب عليهم، وأن كل من كذب بشيء منها أو أبى الانقياد لها مع تعلق خطابه به يكفر بذلك كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} الأعراف.
السادس: أن هذه الكتب يصدق بعضها بعضا، {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ} آل عمران.
السابع: تصديق ما صح من أخبارها كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.
الثامن: العمل بأحكام ما لم ينسخ منها، والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها، ولا يجوز العمل بأي حكم من الأحكام الكتب السابقة إلا ما صح منها وأقره القرآن العظيم.
التاسع: الإيمان بأن القرآن الموجود اليوم عند المسلمين كله ألفاظه وحروفه ومعانيه من عند الله تعالى وأنه منزل غير مخلوق، أنزله الله على نبيه محمد خاتم النبيين {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، نسخ الله به جميع الكتب السابقة وتكفل بحفظه من عبث العابثين كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، لأنه سيبقى حجة على جميع الخلق إلى يوم الدين.