اختلف العلماء من أهل التفسير والحديث والتاريخ في تعيين أول من وضع المسجد الأقصى، وبتتبع أقوالهم واستقرائها، يُستنتج أنها لا تخرج عن ثلاثة آراء:
الأول: إن آدم عليه السلام هو الذي أسس كلا المسجدين، ذكر ذلك العلامة ابن الجوزي، ومال إلى ترجيح هذا الرأي الحافظ ابن حجر في الفتح، واستدلّ له بما ذكره ابن هشام في كتاب التيجان أنّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه.
الثاني: أن الخليل إبراهيم عليه السلام هو الذي أٍسس المسجد، لأنّ بناءه للمسجد الحرام مشهور بنص القرآن: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) البقرة، وإذا ثبت بالنص أنه بنى الكعبة، فإنّ بناءه للمسجد الأقصى محتمل راجح لقرب العهد بين المسجدين. وممن نصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (والمسجد الأقصى، صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل)، وفي موضع آخر قال: (فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام)، ولكن يرِد على هذا القول إشكالان:
أحدهما: أنّ بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة لم يكن وضعاً وتأسيساً وإنما كان رفعاً وتجديدا.
والثاني، أنّه لم ترد آثار في تأسيسه للمسجد الأقصى، سوى ما عند أهل الكتاب: (أنّه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك، فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس) (البداية والنهاية 1/142). ولكن هذا الذي بناه مذبح (المذبح عند أهل الكتاب: ما خصص لإيقاد البخور) وليس بمسجد، ثم إن هذا كان أول قدومه الشام أي قبل مولد إسماعيل وبناء الكعبة بمدة، وإنما بناء مسجد بيت المقدس كان بعد وضع الكعبة كما في حديث أبي ذر في الصحيحين.
القول الثالث: أن الذي بناه هو يعقوب عليه السلام، ورجّح هذا القول العلامة ابن القيم رحمه الله حيث قال: (والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار -أي أربعين سنة-..) (زاد المعاد 1/50) وهذا الذي ذكره ابن القيم موجود عند أهل الكتاب كما ذكر ابن كثير قال ابن كثير:
وأوجه الآراء الثلاثة، وأدناها إلى الرجحان قول من قال: إنّ الذي أسسه هو آدم عليه السلام أو أحد أبنائه، وأنّ الذي وقع من البناء بعد ذلك إنما هو تجديد لا تأسيس، والآثار المروية تسند هذا القول وتجعله أقرب إلى الصواب والله أعلم، وأمّا حديث أبي ذر: (أي مسجد وضع في الأرض أوّل؟.. ) فليس فيه تعيين الواضع الأول المؤسس، ولا يصلح أن يكون تفسيراً لقوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت)، ولذلك فإن البخاري رحمه الله أورد الحديث في موضعين من كتاب الأنبياء، الأول في فضائل الخليل إبراهيم عليه السلام، والثاني في فضائل سليمان عليه السلام، ففهم من صنيعِهِ هذا أنه أراد فضل بناء المسجدين، لا تعيين أول من أسسهما.