لماذا اخترنا الملف؟

كانت دعوى الحرّية من أهم شعارات الثورة الفرنسية، وارتبطت دعواها بشعارين آخرين هما الإخاء والمساواة.. ولكنّ الثورة الفرنسية لم تعرف الحرية ولا الإخاء ولا المساواة، ولا قدّمت من ذلك شيئاً غير الشعار، تهتف به الحناجر وتُحفَر به النُّصب والأَحجار، ثمَّ تُرتكب أَبشع المظالم، فتتناثر الجماجم تحت المقاصل، وتتطاير الأَشلاء بعَبَث الظالمين، وتدور أَوسع جرائم الأَرض، ويُطوَى ذلك تحت أَستار الدعاية الزّاهية والسلطة القاهرة.. وتُطوى معه الشعارات التي نادى بها فولتير (1694ـ1778م) وجان جاك روسو (1712ـ 1778م) والتي مهّدت لقيام الثورة الفرنسية.. وتُطوى بين أمواج الجريمة القيمُ التي بنتها النبوّة في تاريخ الإنسان الطويل..
وثورات أُخرى كثيرة قامت لتصارع من أجل صورة الحرّية التي توهمتها، وتعاقبت الثورات في تاريخ الإنسان حتى يومنا هذا.. ولكن الإنسان في الأرض اليوم ما زال يفقد الحرية الحقيقية وما يبحث عنها..
لقد فشلت معظم هذه الجهود لأَنها لم تطلب الحرّية بصورتها المتكاملة، وميزانها العادل، فاضطربت المقاييس وامتد الصراع، وربما استبدلت بها المظلم والظلام.. (الحرية في ميزان الإسلام، د.عدنان النحوي).
أين الحرّية اليوم في الأرض، إلا حرية الكلمة المخدّرة، أو حرية صاحب القوة والنفوذ، أو حرية الخمور والفاحشة في مواخير الليل، أو حرية إشاعة الجنس والزنا واللواط؟!
فإذا اطلعنا على أقوال بعض منظري الدول الغربية وواضعي مبادئ الحرية الفردية فيها كجون ستيوارت مل نجدهم يعلنون أن: “مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. فبقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية”.
لذلك أصبح من الضروري أن يعرف كل مسلم ميزان الحرية في دينه، ويدرك عظمة الحرية الصادقة العادلة التي دعا لها الإسلام وشيد صرحها، وبنا أركانها، فالمسلم -بمقتضى شهادة التوحيد- يضع نصب عينيه أن حق الله جل وعلا أولى الحقوق بالرعاية، فإذا كان من يرفع شعار الحرية اليوم يعمل فعلا بما يعتقد، فلا يفتن الناس في دينهم، ويزعزع عقائدهم، ويخرب سلوكهم، ويهدد أمنهم واستقرارهم، وليحترم حريتهم واختيارهم الذي اختاروه منذ قرون متعددة.
إن الحرية المنفلتة من القيود والضوابط الشرعية هي حرية الأهواء والشهوات، ودعوة صريحة إلى إضرام نار الفتنة والتناحر.
ثم هل يكون الفرد حرا طليقًا متمتعًا بلذائذ هذه الحرية إلا إذا أرخى له المجتمع العنان في نزواته وأعماله؟
أم أن الحرية الحقة هي التي تصان معها كرامة الفرد والأسرة والمجتمع؟ علما أن الحرية المطلقة لا وجود لها، إذ أنها تشبه الفوضى إن لم تكن هي الفوضى عينها.
وهل يمكن أن نعتبر نشر أفكار ومبادئ وقيم تمس الثوابت وتهدم قواعد المجتمع، وتهدد أركان الدولة، وتتنافى مع ما عرفه المغاربة منذ قرون عديدة حرية فردية؟
ما يجري على الساحة الوطنية اليوم يكشف لنا بجلاء أن العلمانيين الذين يرفعون شعار الحرية الفردية من خلال جمعياتهم ومنظماتهم وأحزابهم ومنابرهم الإعلامية يتبنون المفهوم الغربي المحض للحرية، ولا تهمهم أبدا مخالفة الثوابت ولا الدين ولا القيم ولا التاريخ ولا الأعراف.. وهو ما ينبئ بخطر عظيم -لا يقل أبدا عن خطر الإرهاب الذي اكتوينا بناره- يتهدد بلدنا، ويمس وحدته وأمنه ونظامه الأخلاقي والاجتماعي والسياسي.
لذا وجب علينا أن نعيد النظر حكومة وشعبا ومؤسسات في طريقة التعامل مع مثل هذه الأفكار العلمانية، وأن نقف موقفا حازما اتجاهها، ونكف عن سلوك منهج الحياد اتجاهها.
وعلى المؤسسات الموكول لها الحفاظ على الأمن الروحي للمغاربة أن تضطلع بمسؤولياتها وتقوم بواجبها، وتستثير علماءها ووعاظها لمواجهة هذا الفكر الهدام، وتبين الحق تكشف الباطل، خاصة لمن أشربوا مثل هذه الشبه والأفكار الخطيرة، ويزداد الأمر إلحاحا إذا علمنا أن معظم العلمانيين الذين يرفعون شعار هذه الدعوات يشكون من الأمية الدينية.
إن سكوت المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية ووزارة الأوقاف وعدم تدخلها لحسم الموقف في كثير من المواضيع المثارة على الساحة يفقدها المصداقية، ويجع وجودها كعدمها بالنسبة للمواطن.
ولتسليط الضوء أكثر حول مفهوم الحرية في الإسلام، وبيان المرجعية التي تتبناها الجمعيات والمنظمات التي ترفع لواء هذه الدعوة اليوم، وانعكاسات دعوتهم على الفرد والأسرة والمجتمع، وموافق علماء المغرب اتجاه مثل الأفكار، ارتأينا فتح هذا الملف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *