وفاة الحاج المهدي بن موسى المقاوم الذي تعددت مزاياه واحتسب ما قام به جهادا في سبيل الله إدريس كرم لطف الله به

جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وآبت إلى حيث يتيسر لها المرغوب، وتقضى لها الحاجة، ويحفظ لها ماء الوجه، وتصان فيه الكرامة، ويُرفع عنها الملام، ولا يتبعها منٌّ ولا أذى، ولا يلحقها تبكيت ولا تنكيت ولا استغلال، محفوظة القدر مقضية الحاجة، حائزة على المطلوب مستوفية المرغوب، دون شطط محبط أو تضييق مسقط، وكأن أصحابها يعلمون أن مرغوبهم إنما هو وديعة مودوعة أو ملك يمين نسي، أو بعيثة أرسلت من ولد أو والد أو أخ أو صديق، وادخرت ليوم الشدائد، فكانت عند الحاج المهدي الذي بكاه يوم مماته الابن والحفيد والقريب والبعيد، والجار والصديق، والغني والفقير، والعامل والعابد، والزاهد والمتسول والحارس والصانع، وكل من كان له به سبب أو علاقة.

الحاج المهدي الذي أخبرني بأن والده قال له: “اللَّه ايْجَعْلَك تَخْدَمْ والنَّاس تَأكُل”، وكذلك كان يافعا في بني ادرار، وشابا بوجدة، حيث شارك في ثورة الملك والشعب، التي انطلقت قبل أوانها بيوم، حيث كان مع أصحابه يعبئون زجاجات المولوطوف ويوزعونها على المتظاهرين في شوارع وجدة بواسطة شاحنته لاستعمالها ضد المصالح الاستعمارية، ثم حمل في الغد المبحوث عنهم من الذين تم التعرف عليهم من مسيري المظاهرة حيث أخذهم إلى المنطقة الإسبانية، مما جعل اسمه يندرج في قائمة المطلوبين، الأمر الذي جعله يترك الشاحنة في مرآب “مسواك”، وينتقل إلى مدينة كرسيف عند عمه القاضي أحمد المهدي، حيث كان يأوي إلى منزله ليلا للمبيت أياما قليلة، ثم قصد بعدها مدينة سيدي سليمان، حيث حصل على عمل هناك أهّله للحصول على بطاقة تعريف من عند قائدها، سهلت عليه التنقل إلى البيضاء، حيث عمل في سوق الخضر بالجملة مع جماعة من مقاومي وجدة الذين التجئوا إليها كما فصلناه في بحثنا “مقاومون منسيون” المنشور منذ سنوات، وعاد إلى وجدة بعد أن تدخل أخوه رابح عند أحد ضباط الشرطة من أصل جزائري -مقابل نقود أعطيت له-، لحذف اسمه في لائحة المبحوث عنهم، ولما عاد إلى هناك اشتغل في تصدير الخضر إلى الجزائر بواسطة شاحنته السالفة الذكر، وبعد الاستقلال غادر المغرب إلى فرنسا حيث افتتح متجرا للمواد الغذائية والجزارة وعمل من هناك على مساعدة المهاجرين من الجزائر المغاربية على الحصول على عمل إضافة إلى إسهامه في دعم الثورة من خلال جمع التبرعات المالية والعينية سواء لأنصار الجبهة “جبهة التحرير الوطني الجزائرية”، أو المصاليين أي أنصار “مصالي الحاج” وعاد منها في مطلع الستينيات إلى الناظور حيث عمل في نقل المسافرين من خلال شراء حافلتين، ثم انتقل إلى الرباط وسلا حيث عمل في مشاريع مختلفة من النقل إلى الفلاحة، إلى التجارة في الدراجات وقطع غيارها، إلى البناء حيث كانت آخر مهنة له رحمه الله.
ومما يعرف عنه حبه للعلم والعلماء ومجالستهم والاستماع إليهم، وحضور دروسهم، وهكذا حضر دروس العلماء كالحسن وجاج وقدور الورطاسي ومحمد عبد البر وخليل الورزازي، وآخرين ممن غابت عني أسماؤهم، وحجّ برا بواسطة سيارة اشتراها لذلك الغرض صحبة مجموعة من أصدقائه، صادف فيها معركة الكرامة، بعد هزيمة 1967م، والتي أسست لانطلاق العمل المسلح الفلسطيني بقيادة ياسر عرفات، وتوالت حجاته وعمراته، سواء بمفرده أو مع زوجته وبعض أبنائه.
إن المتتبع لسيرة الحاج المهدي يكتشف فيها الآليات التي تربط العلماء بالعامة، وكيف تبنى القيم الإسلامية في نفوسهم، وتحصنهم ضد كل الأهواء والإغراءات، فلا غرابة أن ينحاشوا في زمن الشدة حول ما قال الله والرسول صلى الله عليه وسلم، للدفاع عن المقدسات وحماية بيضة الدين، فرحمة الله عليه وعلى أمثاله من الذين أحسنوا الحسنى وزيادة، وثبته الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وألهم ذويه الصبر والسلوان، و”إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *