سمات النصوص الشرعية وعلاقتها بالفتوى العلمية رشيد مومن الإدريسي

جاء الإسلام في خاتمة الرسالات، ليكون دين الله الباقي الخالد إلى أن تقوم الساعة، ولتكون شريعته وعقيدته هي المهيمنة على حياة البشرية كلها كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ).

وقد شاء الله وأراد كونا وقدرا أن تكون فئات من الناس، بل ومن داخل صفوف المسلمين أنفسهم، تعشو عن هذه الحقيقة، حقيقة هيمنة الدين على الحياة وقدرته على تسييرها وإسعاد البشرية بها، وتركن إلى مقرراتها وقواها العقلية المنحرفة لتحكم من خلالها على شرع الله ودينه تحت غطاء التطوير والتجديد والمسايرة والملاءمة والتنوير إلى غير ذلك من دسائس السفهاء، والدعاوى العمياء، وعبث الجهلاء.
قوم “طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب، ويكفيك دليلا على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض”1.
ومن مزابل عقولهم التي يسعون إلى نشرها وتقريرها والدعوة إليها: إخضاع الفتوى الشرعية المستندة إلى نصوص الوحيين للنص القانوني، أو إلى مجرد النظر العقلي، أو المنطق الردي.. ثم ردها بعدُ دون حياء إلى الرب العلي.
إنها دعوى عريضة، وأباطيل شنيعة، تروجها النفوس المريضة، لإبعاد الناس عن الحق والبصيرة، وسلخهم عن الدين والشريعة..
وللكشف عن سوء هذا الضلال “العقلاني” والباطل العصراني أقول:
مما هو مقرر في الشريعة الغراء أن النصوص الشرعية هي الأساس الذي تستند إليها الأنظار والأفكار والآراء كما هو واضح عند العلماء، ومعلوم عند العقلاء، وذلك لاتصافها بجملة من السمات لا تتوفر في العقل ولا في المنطق ولا القانون خولت لها سداد الحكم، وصحة المرجعية، وإلزامية العمل.
فالنصوص الشرعية: شاملة، وثابتة، وعاصمة، وحاكمة، وعملية.
فكونها شاملة أي: متصفة بالشمول الذي يستغرق الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص كما قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
قال العلامة الطاهر بن عاشور المالكي رحمه الله: “معلوم بالضرورة من الدين أن شريعة الإسلام جاءت شريعة عامة داعية جميع البشر إلى اتباعها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها لا محالة سائر أقطار المعمور وفي سائر أزمنة هذا العالم” مقاصد الشريعة الإسلامية 86.
وأما أنها ثابتة أي: لا تتغير في ذاتها2 ولا تتبدل بخلاف غيرها.
قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله عند تفسيرها: “إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدلت وحيه فعصيته بذلك عذاب يوم عظيم هوله” الجامع لأحكام القرآن 8/319.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به” الفتاوي 22/196.
وأما كونها عاصمة أي: لا خطأ فيها وعاصمة للآخذ بها ولذا لم يجعل الله تعالى “العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة”3.
قال تعالى: (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين” الفتاوى الكبرى 7/383.
وهي حاكمة كذلك ولذا فـ”التأويل لا يُقضى به على النص والتوقيف، وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه، ويحمل على موافقته، دون مخالفته”4 مصداقا لقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ).
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “العقل لا يجعل حاكما بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب أن يقدم ما حقه التقديم (أي: الشرع)، ويؤخر ما حقه التأخير(أي: العقل) لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل، لأنه خلاف المعقول والمنقول” الاعتصام 2/326.
أما أنها عملية أي: تقبل التطبيق والحُكم بها بل هذه غايتها والمقصود منها كما قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: “هو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى، وبعد وفاته بإتباع سنته وذلك أن الله عم بالأمر بطاعته ولم يخصص بذلك في حال دون حال فهو على العموم حتى يخص ذلك ما يجب التسليم له” تفسير ابن جرير 6/436.
وعليه فإذا كانت نصوص الشريعة كتابا وسنة متسمة بهذه الصفات العظيمة، والخصائص المتينة، فكيف نُخضع الفتاوى الشرعية المُستنَدة إليها إلى عقل أو قانون أو منطق.. مع أن هذه الأخيرة وأمثالها محكوم عليها غير حاكمة شرعا، ذلك لأن المفتي حقيقة يبني فتاواه على روحها أخذا بالتدليل لا التجريد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها الدليل” إعلام الموقعين 4/ 322-323.
ولذلك قرر العلماء أن الاستهانة بالأدلة الشرعية في الإفتاء تساهل فيه كما قال السمعاني الكبير رحمه الله: “المفتي من استٌكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الرخص والتساهل. وللمتساهل حالتان:
إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام…
والثانية: أن يتساهل في طلب الرخص، وتأول السنة، هذا متجوز في دينه، وهو آثم من الأول” التقرير والتحبير لابن الأمير 3/341.
فالمفتي إذن “مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَم به وأوجبه” كما قال أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله فيما نقله عنه الشاطبي رحمه الله في الموافقات 4/140.
لكن أهل الزيغ والضلال أبوا إلا جعل عقولهم القاصرة وأنظارهم الفاسدة الحَكَم الفصل والدليل والبرهان على حد قول الإمام ابن القيم رحمه الله في أسلافهم وفيهم تبعا: “جعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، ثم ردوا متشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم” الصواعق المرسلة 3/990.
وليس هذا بغريب حقيقة فأهل البدع سموا بـ”أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهوائهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها” كما قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله في اعتصامه 2/176.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. تضمين من كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله 112.
2. لضعف العلم وفساد النظر عند البعض لم يتصورا في هذا المقام الفرق بين الحكم الشرعي (كتابا وسنة)، ومناط الحكم الشرعي، فالأول ثابت، والثاني قد يتغير.
3. الفتاوى الكبرى لابن تيمية رحمه الله 4/129-130.
4. أحكام القرآن للجصاص رحمه الله 3/37.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *