دعوة التوحيد بين نفع الأصيل وعبث الدخيل عبد المغيث موحد

إننا لا نملك أمام الذين يضيقون اليوم ذرعا بدعوة التوحيد، ويقعقعون ببهتان مفاده أن المنهج السلفي -منهج ما أنا عليه وأصحابي- أدخل الأمة في أتون الفتنة ووهن الفرقة، فكم سمعنا بطبل الأذن من يقول: كفانا تعقيدا، كفانا عقيدة، كفانا من وافد الكتب الناضحة بالتفسيق والتضليل على ضوء هذا الذي تسمونه العقيدة، كفانا تضخيما وتهويلا من وهْمِ القبورية وسراب الرفض، ووضعهما مشجبا تعلق عليه الشرقيات النجدية القادحة في خصوصيات الإسلام القطري، والمتسورة لمحاريبه البدعية الرائمة زعزعة الأمن الروحي للمنخرطين في ميثاقه الثلاثي البديع.

كفانا من هذا كله وهلم ليعانق الضب الحوت، ولتختلط النار بالماء في تجانس لطيف، وليدعو كل حزب للفرح الذي لديه وبين يديه تحقيقا للوحدة بغير تصفية، وتنزيلا للتمكين بغير جهد ولا تربية، فلا عجب أن يتم لنا التغيير إلى الأفضل حولنا؛ دون مكابدة إيقاعه من داخل نفوسنا، سيما ونحن نواجه الصليبية الحاقدة والصهيونية المتربصة، فالواجب أمام هذا الهم وركام الغم أن نجيش الأطياف حتى ولو اختلفت بيارقها، وتضادت أعلامها، لنقف أمام هذا السيل العرم بخليط نكد من شيعة وكلامية، وقبورية خرافية، وسلفية نقية تقوم على منهج الكتاب والسنة، ولا تتخطى ولا تتغاضى عن ميراث فهم سلف هذه الأمة، جيل الوحي بامتياز، الذي أحاط علما بأسباب النزول ومناسبات الورود، وأخذ عن سيد الخلق باللقي والتلقين، فحصل له ما لم يحصل ولن يحصل للّواحق من بعده.
لواحق؛ البعض منها اليوم يسعى جاهدا لتنميط الدين وتحجير واسعه، ورسم حدود مصطنعة له تتماشى وقوالب المصلحة الزائغة عن مقاصد الوحي الشريف، الرائمة إخضاع الثابت القطعي للعارض المتغيِّر، حتى إذا حصل هذا التفاعل المقيت سهل على المتربصين زعزعة أمننا وتجويع أرواحنا، فصرنا أعداء بعد ألفة يضرب بعضنا رقاب بعض، وصار العدو الخصم حكما يطفف الكيل مع بعضنا، ويجثم بثقل على أنفاس أهل الغربة منا، عندها فقط سنتحسس الكلوم، وسنحصي ضحايانا في ندم وصمت رهيب، وسنتذوق طعم الهزيمة واستحالة إعادة الكرة بالنصر والتمكين.
وقبل وقوع هذا وذاك نعود العود الحذر لنؤرخ بصدق؛ أننا لازلنا لا نملك أمام الذين يضيقون درعا بدعوة التوحيد، ويخشون الوافد الشرقي، أو كما يطيب للبعض تلميحا بلا تصريح أن يسمي هذا الوافد بالدعوة النجدية كناية عن ظرفية المنشأ وبؤرة المنطلق، ولأننا لا نتعبد الله بالذوات والرسوم؛ ولا نعرف الحق بالرجال، إنما نعرف الحق إبتداء وبه عطفا نعرف أهله.
ولأن الحق يدور مع محمد صلى الله عليه وسلم، فإننا لا نملك إلا أن نذكر من نسي أو تناسى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أعلن دعوة التوحيد وشوكته، وشوكة أتباعه ضعيفة لا تقوى على عاديات صناديد الكفر وسخائم الشرك والجحود من أهل مكة، ومع ذلك فقد عرض على نبينا مساومة التطبيب والتمليك والمال والسيادة، ولو شاء لقبل الملك وأسس له جيشا بعدة وعتاد فأخضعهم إبتداء لسلطانه الدنيوي، ثم بعدها أخضعهم لسلطانه الديني؛ سلطان لا إله إلا الله، وما أيسر الأمر؛ لكنه عليه الصلاة والسلام اختار الاستقامة وفق الأمر الرباني، وهذه ولا شك دعوة الأنبياء والمرسلين من قبله مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، فلا غرابة أن نجد حياة نبينا الدعوية كانت كلها حافلة ببيان التوحيد والبراءة من الشرك وأهله.
ولقد تواترت النصوص الحديثية في باب التوحيد حتى بلغت نصاب الحجة وزيادة، فهذا نبينا يعلِّم معاذا حق الله على العبيد؛ وحق العبيد على الله تفضلا منه جل وعلا، ويرسله بخبر الآحاد إلى اليمن ليكون أول فصول الميثاق الغليظ، دعوتهم إلى لا إله إلا الله بداية، فإن حصلت الاستجابة انتقلت مهمة السفير من باب الدعوة إلى باب تعليم شعائر الدين الحنيف، وها هو نبينا عليه الصلاة والسلام ومع مكابدة مرض موته لم يتنازل على شدة عنايته بهذا الأمر الجليل، فقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: “أدخلوا علي أصحابي”، فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافري، فكشف القناع فقال: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام وهذه نماذج قلة من كثرة كثيرة من حياته النورانية، تلك الحياة التي ملأ الله بها الأرض عدلا بعد جور، وضياء بعد ظلمة، وأمانة بعد خيانة، ومروءة بعد رعونة.
وقد صار الصحابة رضوان الله عليهم من بعده على منهاجه العظيم، فحذروا من الشرك وسدوا ذرائعه: فاجتثوا الأشجار، ودكوا الأحجار، وأبطحوا ما علا وأشرف من القبور والأوثان، وعلى نهجهم سار التابعون لهم بإحسان، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام بالأمصار العدد الغفير، فما وصلنا عنهم أو عن أحدهم أنه استغاث عند لحد صاحب، ولا دعاه أو دعا به، أو تضرع عنده، أو استمطر به، أو استقوا ببركة صحبتهم لخير الأنام.
وبمثل هذه العقيدة، وبمثل هذا الاتباع والامتثال، فتحت الأمصار ودانت الأقطار، وأعطيت الجزية على يد صاغرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ومشى الراكب من المشرق إلى المغرب لا يخشي أحدا اللهم الذئب على غنمه. واليوم خلفهم خلوف لا يتورعون عن نعت تلك المحجبة البيضاء بالرجعية والظلامية، بل صارت دعوة التوحيد تطرفا وزيغا عن جادة الوسطية والاعتدال، وصدعت منابر المجددينات بالتحذير منه ومن أهله، والدعوة إلى استئصال شأفته حفاظا على دين الأجداد، زعما أنه دين القباب والمشاهد والأضرحة.
فيا ليت شعري كيف يتسنى لنا أن نواجه ثلاثية النصرانية بسبعينية الفرقة؟
سبعينية الضلال والزيغ التي قرر فيها نبينا حكما حاسما وهو الرحمة المهداة، بأنها كلها في النار إلا واحدة منصورة ظاهرة غالبة، قلتها كثرة، وغربتها شهرة، ووحشتها أنس بالله، وتمسكها بسنة نبيها قبض على الجمر، لكنه قبض فضل ورفعة.
فهل يا ترى حاد نبينا بهذا التصنيف عن جادة الوسطية؟ وهل كان نبينا بهذا الصدع والاستشراف تكفيريا؟ حاشاه ثم حاشاه ثم حاشاه، إنما هو رحمة للعالمين، فقد نال من خيريته ورقته البعيد قبل القريب، والغريب قبل الحبيب، ولكنها استقامة على الأمر، كان معها لا يساوم في الحق أحدا، ولا يقبل بديلا عن الفضل الكامل بأنصاف الحلول وأمساخ الكيول، الذين هم في دائرة الإسلام قد ألقوا السمع انقيادا لأهل الخبال وأرباب الفتنة، كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، فالله المستعان وعليه التكلان، وهو الحسيب ونعم الوكيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *