وعي الأمم الغربية بضرورة حماية وحدتها اللغوية

اللغة وعاء الثقافة، والثقافة أساس الحضارة، والحضارة ترجمة للهوية؛ ومن هنا كانت اللغة من أهم الأركان التي تعتمد عليها الحضارات، ومن أهم العوامل التي تساهم في تشكيل هوية الأمة، وكلما كانت اللغة أكثر اتصالاً بثقافة الشعوب كانت أقدر على تشكيل هوية الأمة وحملها.

وبهذا ندرك السر في نهي الشريعة الإسلامية عن استعمال لغة أخرى غير العربية لغير حاجة (الرطانة)؛ في الوقت نفسه الذي نجد فيه بعض الفقهاء أوجب تعلم اللغة العربية.
واللغة من مقومات الوحدة بها تنهض الأمم، ويعلو شأنها، وتتحقق وحدتها، وفي غيابها تتفكك الشعوب وتضمحل الروابط وتتداعي، وينحسر الانتماء. فالدول التي يتحدث أهلها بلغة واحدة تكون أكثر تماسكاً وانسجاماً من الدول التي تتحدث بعدة لغات، بل إن وحدة اللغة من أهم عوامل الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهذا واضح في الدول الإفريقية إذا ما قورنت بدول أوروبا وأمريكا. (العولمة اللغوية هـيثـم بـن جـــواد الـحــداد).
قال د. إسماعيل المقدم في كتابه هويتنا أو الهاوية: إن للغة دوراً خطيراً في توحيد الأمة، وهاك مثالين يوضحان ذلك:
الأول: (إيرلندا) التي رزحت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وذاقت منه الويلات، خصوصاً على يد (كرومويل) الذي أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم وباعهم عبيداً في (أمريكا)، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو لغتهم الإيرلندية، وتذويبهم في المجتمع البريطاني.
ولما حاول بعض الإيرلنديين الوطنيين بعث أمتهم من جديد أدركوا أن هذا لا يتم ما دامت لغتهم هي (الإنجليزية)، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته، وتحقق وحدته.
وأسعفهم القدر بمعلّم يتقن لغة الآباء والأجداد؛ دفعه شعوره بواجبه إلى وضع الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته حتى انبعثت من رقادها وشاعت، وصارت (النواة) التي تجمع حولها الشعب، فنال استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم بانتخابه أول رئيس لجمهورية (إيرلندا) المستقلة وهو الرئيس (ديفاليرا).
والثاني: (ألمانيا) التي كانت مقاطعات متفرقة متنابذة، إلى أن هبّ (هَرْدِر) الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ينادي بأن (اللغة) هي الأساس الذي يوحّد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا حوله قصصاً وبطولات خلبت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم، وأمجاد أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى الانضواء تحت لواء (هوية ألمانية) واحدة، الأمر الذي مهّد الطريق أمام (بسمارك) لتعبئة الشعور القومي، وتوحيد ألمانيا، وإقامة (الإمبراطورية الألمانية) التي كان (بسمارك) أول رئيس وزارة (مستشار) لها. اهـ
وحماية اللغة الرسمية للبلد من العولمة اللغوية كان هاجس العديد من الدول الأوروبية؛ فقد دعا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لدى افتتاحه منتدى حول موضوع تحديات العولمة إلى إقامة تحالف بين الدول التي تعتمد لغات من أصل لاتيني للتصدي بشكل أفضل لهيمنة اللغة الإنجليزية.
ودعا شيراك الناطقين بالإيطالية من الاتحاد اللاتيني إلى الانضمام إلى منظمة الفرانكفونية ومجموعة الدول الناطقة بالبرتغالية والمنظمتين الناطقتين بالإسبانية للدول الأمريكية -الأيبيرية والقمة الأيبيرية- الأمريكية.
وأضاف أنه “من خلال منظماتنا الخمس تصبح هناك 79 دولة وحكومة من كل القارات تمثل 2.1 مليار رجل وامرأة يريدون الإبقاء على لغاتهم”.
وطالبت دول أخرى بأن تحذو بلادهم حذو فرنسا بسن تشريعات تمنع استخدام المصطلحات الأجنبية في الإعلانات والرسائل الإعلامية.
فإذا كانت الدول الغربية تعتبر حماية لغتها وهويتها الثقافية من قبيل حماية الأمن الاستراتيجي؛ وإذا ما اخترقت كلمة أجنبية قاموس مصطلحاتها فزعت وانتفضت وكأن جنود العدو دخلوا أراضها؛ فمن حقنا أن نتساءل:
ما هو هدف من يسعى إلى إقصاء اللغة العربية التي تجمع بين جميع دول المسلمين وتسهل الخطاب بينهم؟
وأي مشروع تدافع عنه النحلة الفرانكفونية ودعاة العامية؟
لا شك أنه مخطط ومشروع محتل الأمس وكل من يهمه أن يفرق بين صفوفنا ويشيع بيننا الفتنة والفرقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *