عندما سمعت للوهلة الأولى بـ«مؤمنون بلا حدود-مؤسسة دراسات وأبحاث»، خِلت أن فكرة المؤسسة هي نشر الإسلام وأصول إيمانه من خلال دراساتها وأبحاثها دون تقيد بحدود، أي دون ارتباط بحدودٍ جغرافية ترابية، أو خضوع لأوامر سلطة سياسية، لأن الإسلام لما كان آخر رسالة من الله إلى الإنسان استلزم أن يكون من أهم خصائصه الشمولية والاستمرارية والعالمية.
لكن بعد الاطلاع والمتابعة لإنتاجات هؤلاء المؤمنين بلا حدود، تبين أن الهدف هو تفجير حدود الإيمان ونسف معالمه، بمنهجية تعتمد الخلط بين دائرة الكفر ودائرة الإيمان، بحيث يصير كل من اعتقد في شيء ما مؤمنا، ويتساوى في ذلك من يؤمن بالله سبحانه، مع من يؤمن بغيره من مخلوقاته كالبوذية والهندوسية وكونفوشيوسية وكل الديانات البشرية المختَلَقَة.
مؤمنون بلا حدود هي محاولة للَبس الحق بالباطل وكتمان الحق عن علم ودراية، للوصول إلى هيمنة النظرة العلمانية للكون والإنسان والحياة، مع فرض قراءة جديدة للقرآن والإسلام يصبح معها دين الإسلام مجرد معتقد فردي لا محل له في تدبير الشأن العام، وليس فيه من الأحكام ما يسوغ إحلال نظمه مراتب الحكم السياسي، بمعنى أن الإسلام دين بلا دولة، وأن كل تاريخ الإسلام هو مجرد توظيف «سياسوي» للدين من طرف العرب، وأن حضارة الإسلام التي دامت 14 قرنا، لا تعدو أن تكون متاجرة بالدين من طرف حكام مستبدين استغلوا شعوبهم بادعاء حماية الدين.
لن ندافع عن الدين ولا عن نظام الحكم في الإسلام لكن نقتصر على التساؤل:
هل يمكن أن نتحدث عن إيمان بلا حدود؟
وهل يمكن أن يكون الشيء الذي نؤمن به لا حد له: أي لا تعريف له ولا مضمون ولا ماهية؟
أليس الإيمان بلا حدود كالكفر بلا حدود، ما دام يجيز للإنسان أن يشتمل قلبه على الإيمان بالأمر ونقيضه، بحيث يمكن أن يتساوى في الإيمان بلا حدود، من يؤمن بالله وحده، ومن يؤمن به سبحانه، لكن يرى أن تقديس بوذا وتنفيذ بعض تعاليم البوذية لا يؤثر في الإيمان بأن لا إله إلا الله، والإيمان بأن محمدا رسول الله.
فالإيمان الذي يقترحه المؤمنون بلا حدود هو إيمان لا محل فيه لله وحده سبحانه، بل يمكن أن تؤمن بالله وبغيره، سواء كان آلهة العرب أو اليونان أو حتى إلها تصنعه أنت بنفسك، لأن الإيمان عندهم لا يهتم بما تعبد، ولكن المهم أن تتحلى بقيم الخير والجمال والمحبة بأرقى معانيها، وتتعالى على التحيزات والفوارق العقائدية والعرقية، أي ألا يبقى في فكرك أو معتقدك شيء اسمه الشرك أو الكفر، بمعنى أن يغيب من إيمانك التوحيد حتى لا ترى في غيرك الشرك والكفر فتتهمه بأنه مشرك أو كافر، أو على الأقل إن رأيت الكفر والشرك يمارس في بيتك أو مجتمعك فلا تحكم عليه بالشرك أو الكفر انسجاما مع الإيمان بلا حدود الذي لا يجيز لك أن تحاكم غيرك إلى ما تعتقده أنت.
وإذا خالفت مقتضى هذا الإيمان بلا حدود فقد سقطت في «التحيزاتِ والفوارق العقائديةِ والثقافية والدينية والمذهبية والطائفية» التي تخرجك من دائرة الإيمان بلا حدود، كما جاء في تعريف المؤسسة للإيمان بلا حدود في موقعها عندما طرحت رؤيتها ورسالتها وأهدافها:
«إيمان بلا حدود يتعالى على التحيزاتِ والفوارق العقائديةِ والعرقيةِ والثقافية والدينية والمذهبية والطائفية، إيمان يتمثّل قيم الخير والجمال والمحبة بأرقى معانيها، ويدفع بالإنسان للسعي نحو هذا التعالي في حركته وفكره وسلوكه، ويزرع فيه الثقة بقدرته على الانفتاح على مختلف الثقافات الإنسانية، وأن هذا الإيمان اللامحدود وضمير الإنسان الأخلاقي كفيلان بمساندة رشده العقلي وحراكه المعرفي من أجل بناء حضارته الإنسانية والنهوض بمجتمعه والارتقاء به».
وبهذا يشمل الإيمان بلا حدود انعدام الإيمان أصلا، أي أن تعتقد أن الكون وُجد من غير خالق، وتكتفي بالإيمان بالخير والجمال والمحبة، ليس فرضا أن تؤمن بأن هناك خالقا واحدا للكون مستحقا للعبادة وحده بلا شريك، وهو معنى حرية الضمير في الفكر العلماني الغربي.
كما يجيز الإيمان بلا حدود الإيمان ببعض ما أنزل الله والكفر بالبعض الآخر، كأن تؤمن بالله إلها وربا لك وللكون، لكن لا تفرض على نفسك أن تتقيد بأوامره، لأن الإيمان بلا حدود يجعلك لا تقف عند حدود ما أوجبه مَن تؤمن به، فلا معنى أن ترى أن المقتضيات والحدود التي وضعها الله مثلا في القرآن، يجب الوقوف عندها ورفض ما يناقضها، لأنك تبني إيمانك بلا حدود.
وبذلك فإن كل حد أو مقتضى ذُكر في النص الديني للإيمان سواء في الإسلام أو النصرانية أو اليهودية لا معنى محددا ثابتا له، فهو قابل للنظر البشري، والقراءة المتجددة وفق العقل البشري المتطور على الدوام، وما دام العقل البشري منذ عصر الأنوار قد ثار على الله -تعالى الله عن هذا علوا كبيرا- وأحل الإنسان محل الله، فإن للإنسان ما تمنى، وله ما يشاء، ولا شيء يفرض عليه غير ما اتفق عليه مع بني جنسه (القانون).
والنتيجة أن كل ما أنزله الله وشرعه لخلقِه=«الإنسان»، هو قابل لكل تأويل يراه هذا الإنسان، حتى ينسجم الوحي الرباني مع ما شرّعه الإنسان لنفسه. وحتى يتم إخضاع إرادة الله لإرادة البشر؛ تعالى الله عن هذا علوا كبيرا.
وتفريعا على تصور المؤمنين بلا حدود للإيمان، يصبح كل ما أنتجه العلماء من كتب التفسير والحديث والفقه ليس من الدين في شيء، بل هو مجرد فهم إنساني وقراءة محصورة في حدود جغرافيا خاصة، ومحكومة بزمن خاص، وكل رجوع إليها هو ماضوية تقفل باب الاجتهاد، ورجعية تلغي تطور الحياة وتوقف الزمن.
يقول أحد المؤمنين بلا حدود:
(وكثير من التطبيقات المنسوبة إلى الدين والإسلام اليوم، جاءت بها أفكار وآراء بشرية تزعم صواب فهمها للدين، ولكنها لا تملك حقًا ولا تفويضًا بذلك سوى ثقة المؤمنين بها واتّباعهم إياها. ولكنها في كثير من الأحيان شوهت الدين وحرفته عن مقاصده، وألبست على المؤمنين الدين والصواب، وكان أصوب وأنقى للدين والتدين لو ترك الدين شأنًا فرديًا خاصًا بكل إنسان على حده، وأن ينشئ كل إنسان فهمه للدين وفق طمأنينته وقناعته وفطرته من دون أهواء أو شوائب أو منافع أو مؤثرات أو ترغيب أو ترهيب، ومن دون تأثير للسلطات والجماعات والتراث ودعاوى الوساطة بين الله والإنسان، فحتى الرسول لا يملك هذا الحق الذي ادعته جماعات وهيئات وسلطات، فـ«ما على الرسول إلا البلاغ»). تحرير العلمانية بوصفها فهمًا للدين/إبراهيم غرايبة/موقع مؤمنون بلا حدود.
حمق وشطط، وشطح وعبث.
حتى الرسول حسب «مؤمنون بل حدود» لا يملك حق تفسير رسالته التي جاء بها من عند الله مُرسلها.
لماذا يا ترى سلبوا الرسول هذا الحق في بيان رسالته؟
الجواب: لأن المؤمنين بلا حدود إذا آمنوا بالسنة، التي هي تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن المنزل، أي لرسالة الرب سبحانه، فقد آمنوا بالحدود.
فأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، هي المبَيِّنة لما جاء في القرآن، أي هي التي تضع الحدود للإيمان والعمل، وهؤلاء لا يعترفون بأية حدود للإيمان، لذا كان عليهم أن يسلبوا النبي صلى الله عليه وسلم حق البيان والتأويل، الذي هو بالنسبة للنبي الرسول واجب وليس حقاً، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل.
ثُم إن قَصْر تفسير الدين على الإنسان وإعطائه الحرية في التأويل حسب ما يريده ويشتهيه هو إهدار لإرادة الرب سبحانه، وإهمال لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخضاع للوحي لعبث القراءات المتعددة والمختلفة حسب الأهواء، أليس هذا هو القراءة المتجددة التي عمل بها اليهود والنصارى عندما أرادوا أن ينكروا ذكر الله لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم المنزلة عليهم، فبكتهم ربهم بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) آل عمران.
والخلاصة:
إن المؤمن بلا حدود لا بد له حتى يكون إيمانه بلا حدود، أن يعتقد ألا وجود لإيمان حق وإيمان باطل، أي أن يلغي كل القواعد الضابطة للإيمان، وهذا يفرض عليه ألا يرى وجودا لناقض لإيمانه، ولا يرى فيمن يعتقد في ضد إيمانه أنه كافر بما يؤمن به هو.
وربما نلخص وظيفة مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» ورؤيتها ورسالتها وأهدافها في عنوانين لمقالين منشورين بموقعها هما:
– تحرير الإسلام من الإيديولوجيا، لمولاي عبد الصمد صابر.
– تحرير العلمانية بوصفها فهمًا للدين، لإبراهيم غرايبة.
ويتضح من خلالهما أن وظيفة المؤسسة هي:
– محاربة الإسلاميين والتصدي لكل دعوة ترى في الإسلام أنه نظام متكامل، ورسالة ربانية إلى البشر كي يمتثلوها دينا ودولة، اعتقادا وحكما.
– والوسيلة في هذه المحاربة وهذا التصدي تكون بإقناع المسلمين بأن القراءة العلمانية للدين، هي أرقى فهم له، بحيث تصون الدين من الابتذال السياسي ومن المتاجرة به، وذلك بإخراجه من السياسة، فيصبح معتقدا فرديا يلبي الحاجيات الروحية للفرد.
والحاصل، هو أن المؤسسة توظف الإيمان بلا حدود لإبطال شمولية وعالمية الإسلام الذي لا يعترف بالحدود.
وخلاصة الخلاصة هي:
إلحاق الإسلام بمصير النصرانية حتى تسود العلمانية في ربوع البلدان الإسلامية، وتقطع الطريق على الأحزاب والتيارات الإسلامية، التي تروم إرجاع إقامة الشريعة الإسلامية والتحاكم إليها.
ومما يزيد من إدراكنا العميق لوظيفة المؤسسة الممولة بأموال الإمارات ودول الخليج، استحضار الدور الذي تقوم به هذه الدول، وبالخصوص الإمارات، في الإطاحة بتجارب الإسلاميين في تركيا ومصر وتونس.