انطلاقا من التناقض الصارخ والاختلاف الكبير بين المرجعية الإسلامية المستمدة من الوحي الذي عصمه الله من التحريف؛ والمرجعية العلمانية المادية المستمدة من نتاج عقول الفلاسفة والملاحدة واللادينيين، يتم الاختلاف وتتباين المواقف حول العديد من القضايا والمفاهيم والمصطلحات.
فلا يخفى على قارئ لبيب أن العديد من الاصطلاحات المتداولة اليوم في عالم الصحافة والفكر خاصة؛ ذات حمولات علمانية؛ ولا يقصد من ورائها دوما ما يتبادر إلى ذهن القارئ البريء من معان براقة جميلة؛ بل تحمل تلك الكلمات في طياتها معان؛ وتوظف توظيفات قد تخالف الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلا.
ومن ضمن تلك الاصطلاحات مصطلح حرية التعبير؛ فتحت هذا الشعار تطاول من تطاول على حقوق الله تعالى، وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق الناس..
ولئن كانت طريقة العلمانيين في تغريب المجتمعات مفضوحة وغير مستغربة؛ فإن الأغرب هو أن نجد بعض المنتسبين إلى الإسلام والمدافعين عنه قد استسلموا لتلك المفاهيم؛ وقبلوا حمولاتها؛ واجتهدوا في التفتيش عما يسندها من نصوص شرعية؛ حتى غدت عند بعضهم حقا لا تقبل النقاش والجدال؛ وأفسحوا مجال التعبير داخل مجتمعات المسلمين حتى لمخالفيهم في العقيدة والمنهاج.
هذا ومن أهم الضوابط التي تحدد ما يصدر عن الإنسان من أقوال وآراء أو ما اصطلح على تسميته اليوم بـ”حرية التعبير” تندرج في الإسلام تحت أصلين كبيرين:
الأصل الأول: الصدق، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة:119).
الأصل الثاني: العدل، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام:152).
فما يصدر عن الإنسان من أقوال وآراء إما أن يكون خبراً فلا بد من الصدق فيه، وإما أن يكون إنشاء فلا بد من العدل فيه. (ينظر: معجم المناهي اللفظية: 32-33).
فهل يدخل كثير مما ينطق به العلمانيون والليبراليون وغيرهم تحت أحد هذين الأصلين؟
“فليس عندنا في الإسلام حرية مطلقة في التعبير عن الرأي، فهناك أشياء تعبر فيها عن رأيك، ما لم تكن قادحة في القرآن، ما لم تكن قادحة في السنة، ما لم تكن قادحة في أصول الإسلام، أما إذا أتى إيراد الأفكار بما يطعن في الدين، أو يذهب هيبته، أو يبعد الناس عن التعبد لله رب العالمين، فهذا مناقض لأصل البعثة التي هي تعبيد الناس لرب العالمين”.
ولم تعط الشريعة أيضا لكل أحد أن يقول ما شاء، إذ الناس ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإدراك؛ وتمكين بعض أهل الأهواء أو من لا علم له ولا دين من إلقاء شبهاته في الناس يعدّ فتنة لهم، إذ ليس بوسع كل أحد رد الشبهات والأراجيف؛ لذا لما قدم صبيغ بن عسل المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن؛ ما الذاريات ذروا، وما الحاملات وقرا؟ أرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعد له عراجين النخل؛ فقال: من أنت قال أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى أدمى رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي.
فعمر رضي الله عنه تعامل مع صبيغ هذا التعامل لأنه قصد فتنة الناس والتشويش عليهم في أمر دينهم؛ إذ كان حقه إذ وردت عليه تساؤلات وإشكالات أن يقصد أهل العلم والفهم ليحلوا له إشكالاته؛ لا أن يقصد الناس ويشوش عليهم ويفتنهم.
أما اليوم فقد أثبت الواقع أن تشكيل الرأي العام يتم عن طريق الإعلام بشتى أنواعه وأشكاله؛ وهو ما يمثل في حقيقته قيودا على حرية الرأي وإن لم يصرَّح بها؛ ذلك أن تشويه صورة الإسلام في الغرب والدفاع عن المعتدين الصهاينة عن طريق وسائل الإعلام، وما استتبعه من صدور قانون معاداة السامية هو مما يقيد حرية الرأي؛ لأن المتلقي لهذا الإعلام الأحادي الإقصائي يتشكل فكره ورأيه في إطار ما يضخه الإعلام. (حرية الرأي..إبراهيم الحقيل).
يقول نعوم تشومسكي: “صحيح أن الرقابة على وسائل الإعلام لا تكاد توجد في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإن صناعة التحكم في الأفكار مزدهرة جداً، بل إنها صناعة لا غنى عنها في مجتمع يعتمد على مبدأ القرار للنخبة والإقرار للعامة”. (موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام د.عدنان بن محمد الوزان:3/495).
فحرية الرأي بكافة صورها ووسائلها كحرية الصحافة والأحزاب والانتخابات.. الخ مثلها مثل الرأي العام.. فكل أصبح صناعة تصنع وفق هوى الممولين وأصحاب السلطة؛ ذلك أن الممولين وهم أصحاب الاحتكارات من الرأسماليين يكونون جماعات الضغط الفعالة في الأنظمة الديمقراطية الغربية إذا لم يكونوا هم المسيطرين على تقاليد الحكم. (آراء في الشرعية وفي الحرية: 517، وحرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية: 89).
أما”الشريعة فقد كفلت الحقوق: الحقوق المالية، وحقوق الجوار، والحريات، لكن بما يخدم المصلحة التي جاءت الشريعة بتحقيقها”.
فهي لم تأت للدنيا فحسب؛ كما هو الأمر اليوم عند الغرب؛ وإنما أتت للدنيا والآخرة، ففيها صلاح المعاش وصلاح المعاد، وصلاح الدنيا، وصلاح الآخرة.
وتبرز أهمية اختيارنا لهذا الملف في تعلقه المباشر بما نراه كل يوم من انتهاكات حقوق متعددة تحت غطاء حرية التعبير عن الرأي، أو من يصوِّر الإسلام على أنه يطلق حرية التعبير لكل أحد؛ أو من يدعي أيضا أن الإسلام يفرض وصاية على العقول، ويكمم الأفواه، ويصادر الحقوق..!