الكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، ولذا قيل “البلاء موكل بالمنطق”1، فكل عاقل يعرف أن الشرور مباديها كلمة، ولذلك من الأمثال السائرة عند الحكماء: “معظم النار من مستصغر الشرر”2، وليس المقصود تكميم أفواه الخلق، ولا السكوت عن إظهار الحق لكن كما أثر عن أحد الفصحاء قوله: “اعقل لسانك إلا عن حق توضحه، أو باطل تدحضه، أو نعمة تذكرها”3، والضابط لذلك أنك إذا تكلمت فبفهم وعلم، وإذا سكت فبحكمة وحلم، فإذا كان “الساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه، فالمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين”4.
فالقصد إذن أن تحذر -عبد الله- من التلفظ بما فيه هلاكك أو هلاك غيرك، كما قال أكثم بن صيفي: “مقتل الرجل بين فكيه”5، والعرب تقول في أمثالها: “إياك وأن يضرب لسانك عنقك”6.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد”7.
فالبصير هو الذي يستشعر مسؤولية الكلمة فيما يجري به لسانه بنوعيه وخاصة قلمه الذي يتسع مداه، ولذا قيل في حق آداب كل من اليدين: “احفظهما عن أن تضرب بهما مسلما، أو تتناول بهما مالا حراما، أو تؤدي بهما أحدا من الخلق، أو تخون بهما في أمانة أو وديعة، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه”8.
فالقلم أمانة في عنق حامله لا ينبغي أن يستعمله إلا في الرسالة التي أرسل بها النبيون وورثتهم من العلماء، فإساءة استعمال القلم كإساءة استعمال السلاح كلاهما يفضي إلى الدمار في العقول والنفوس.
فما أحوج أكثر الألسن إلى الحجر، وكثيرا من الأقلام إلى الكسر، لسوء استخدامها، وعدم ضبط استعمالها، خاصة عند الفتن التي يحتاج فيها المرء إلى التأني والتثبت بدل الاسترواح إلى مجرد النظر، فإن التعجل يمنع التوصل، وصدق من قال: “من تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة”9.
فالمتكلم في الفتن والإحن بلسان الشرع خاصة عليه أن يفقه الأحكام الكلية، وأصول الكلام فيها، وأن يتصور الوقائع والحوادث تصورا شرعيا وعلميا10، وأن يكون متمكنا من إنزال المرويات والنصوص على الواقعة بمسلك مليح، ومنهج صحيح، بلا (مراهقة علمية)، ولا (غرور فكري)11، ودون (تَعْضِيَة عند التنزيل)12 ظنها من ظنها (تكييفا أصوليا أو فقهيا) وقد علاها الضعف في التدليل، وإلا فالسكوت أولى، والورع أسلم13.
والغرض -عموما- لفت النظر إلى أهمية إحكام الكلام وضبط اللسان قدر الإمكان حتى لا يعرض الملام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “إياك وكل أمر يعتذر منه”14.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “إنما الفتنة باللسان وليست باليد”15.
ومما له علاقة بهذا الصدد ضرورة الاعتناء بـ (لغة العلم)، فإن “الناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبلغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة”16، كما ينبغي الحرص على (الألفاظ الشرعية) إذا تكلمنا في الأمور العلمية -عند الفتن خاصة- فإن في ذلك العصمة، وخلافها غير مأمون العاقبة كما لا يخفى و”التعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية هو سبيل أهل السنة والجماعة” 17.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وأكثر آفات الناس من الألفاظ ولا سيما في هذه المواضع18 التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه، والتعبير المطابق، فيتولد من ضعف التصور وقصور التعبير نوع تخبيط، ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم بحسب قصورهم وبعدهم من العلم”19.
فالله المستعان على ضبط اللسان صدعا بالحق، أوصمتا بالصدق، خاصة زمن المحن والافتتان.
وعليه فمن أراد السلامة من الزلل في اللسان فليستحضر عند كلامه جملة من الشروط كشف عنها الإمام الماوردي رحمه الله حيث قال: “واعلم أن للكلام شروطا لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها، وهي أربعة شروط:
فالشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعوا إليه إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر.
والشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخى به إصابة فرصته.
والشرط الثالث: أن يقتصر فيه على قدر الحاجة.
والشرط الرابع: أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به”20.
فلنجتنب “آفات الألفاظ”، و”علل الكلام”، ولنتنكب المجارات مع “ألسنة العوام”، ولنحرص على “الإيضاح التام”، بـ”الحجة والبرهان”، قصد “تنوير الأفهام”، و”تنبيه الأنام”، دون “هدم الأركان”، ولا تغييب “القواعد الحسان”، فإن “البلاء موكل باللسان”، و”الله المستعان”.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1. مأثور عن أبي بكر رضي الله عنه كما في المناقب المزيدية، وقد رفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ضعيف، انظر ضعيف الجامع رقم: 2379.
2. غذاء الألباب 1/66.
3. أدب الدنيا والدين 340.
4. الداء والدواء لابن القيم رحمه الله 113.
5. المجالسة وجواهر العلم 190.
6. الأمثال لابن سلام 2.
7. الصارم المسلول 2/735.
8. بداية الهداية 16.
9. إعلام الموقعين 1/36.
10. قال العلامة الحجوي رحمه الله: “وأكثر أغلاط الفتاوى من التصور” الفكر السامي 4/571.
11. فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله 610.
12. تعد “التَعْضِيَة” مزلقا من مزالق الإفتاء في النوازل وحقيقتها: “تقسيم النازلة إلى أجزائها التي تتركب منها، مع إعطاء كل جزء حكمه الخاص به، كل على حدة، دون اعتبار للقدر الحاصل من التركيب والاجتماع” فقه النوازل للجيزاني 1/68-69.
13. انظر منهاج السنة 5/83.
14. صحيح الجامع رقم:2671.
15. السنن الواردة في الفتن للداني رحمه الله 171.
16. اجتماع الجيوش لابن القيم رحمه الله 29.
17. شرح الطحاوية لابن أبي العز رحمه الله 1/70-71.
18. يقصد رحمه الله بعض المواضع السلوكية الدقيقات فكيف بغيرها عند الفتن والمدلهمات.
19. المدراج 3/78.
20. أدب الدنيا والدين 275.