الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
الإطفاء هو الإخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور.
فالكفار يريدون أن يطفئوا نور الله، وهو كتابه ودينه الذي شرعه لهداية عباده، وأن يخفوا ما بعث الله به رسوله من الدعوة إلى التوحيد والهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر، بنفخة من فمه. وبما أن هذا لا سبيل إليه، كذلك لا سبيل إلى إخفاء نور النبوة.
وإذا كان المضاف يأخذ من المضاف إليه بعض أوصافه شريفة كانت أو مهينة، فتأمل إضافة هذا النور إلى الله، ومن شأن النور المضاف إليه سبحانه أن يكون عظيماً فكيف يطفئه نفخ الفم؟!
وقارن ذلك بتلك الأفواه المتنجسة بالكذب والزور والتي أضيفت إلى أهل الكفر فأخذت منهم مهانة وخسة. وقوله {بِأَفْوَاهِهِمْ} عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها، حيث أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم كبير بسعي ضعيف حقير.
ومن الفوائد أن الله سمى كتابه ودينه وشرعه نورا، والنور يهدي سواء السبيل وكذلك دلائل الشرع لما فيها من البيان، وبها يتميز الحق من الباطل والهدى من الضلال. وفي قوله {يُرِيدُونَ} اختيار للفعل المضارع الذي يدل على الحدوث والتجدّد في الحاضر والمستقبل، ولم يقل (أرادوا) لأن الفعل الماضي يدل في الأصل على انقضاء حدوث الفعل في الزمن الماضي. فإرادتهم إطفاء نور الله تتكرر وتتجدد في كل زمان ومكان، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
ولقد حاول أعداء الإسلام الصد عنه بإلقاء الشبه واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما ينفر منه ومن دعوته، فقالوا هو شاعر وقالوا هو ساحر وقالوا كاهن أو مجنون وغيرها من الأوصاف التي يشهد الحس ببراءته منها، وما أشبه اليوم بالأمس؛ فورثته لهم نصيب وافر من إذاية الأعداء لهم، فلا زالوا يؤذونهم ويرمونهم بكل نقيصة لأنهم حملة الشريعة وعدول الأمة، لا يملون من الطعن فيهم وتخذيل الناس عنهم، لكن الله ناصرهم ومدافع عنهم وقامع عدوهم.
ومع وضوح عداوة الكفار نسمع بعض المسلمين يوالونهم ويأمنون جانبهم ولا يتفطنون لمكرهم؛ وقد قال الله: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89]. وقال: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: 217] وقال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
قوله: {وَيَأْبَى اللّهُ} الإباء والإباية: الامتناع بقوة من الفعل، فهم يريدون إطفاء النور، واللهُ العظيم الكبير القدير يأبى إلا أن يتمّ نوره، والإتمام مؤذن بالزيادة والانتشار؛ ولذلك لم يقل: ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره. وتصديق هذا ما نراه ونشهده؛ فالإسلام أكثر الدين انتشارا، -رغم جميع صنوف الصد عنه والتشكيك فيه، وخور أهله وضعفهم، وسوء حمل كثير منهم له- وهذا وعد الله ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه» (رواه البخاري)، وقوله: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بِعِزِّ عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر» (رواه أحمد والطبراني في الكبير وابن حبان)، وقوله: «إن الله زَوَى لي الأرض -أي جمعها- فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» (رواه مسلم).
فخلاصة الأمر أن علينا أن نتفطن لكيد الأعداء ومكرهم، وأنهم يمكرون بالليل والنهار، وعلينا أن نثق في وعد الله بإتمام دينه ونصرة أوليائه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحـج: 38].{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
اللهم استعملنا في طاعتك، واسلك بنا سبيل محبتك، لا حول ولا قوة إلا بك.