لكي نعرف الجهة التي خططت لإغلاق دور القرآن؛ لا بد أن نستحضر خطاب فؤاد عالي الهمة في مراكش في حملته الانتخابية لعام (2007) والذي قال فيه: (جئنا لمراكش لمحاربة المفسدين والوهابيين)؛ ويعني بالوهابية: دور القرآن السلفية، التابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، التي يترأسها الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي..
وإذا كان تقرير (راند) لعام (2007) قد كشف التوجه الأمريكي نحو التضييق على السلفية في العالم الإسلامي، فإن وثائق (ويكيلكس) قد كشفت بأن (الهمة) كان ينسق مع الخارجية الأمريكية وأجهزة استخباراتها في هذا الموضوع وغيره..
وقد كان أول فصول الحرب التي أعلنها (الهمة): افتعال قضية تافهة؛ وهي قضية (زواج الصغيرة)؛ حيث عمدت (الترسانة الإعلامية) التابعة للاستبداديين؛ إلى تفسير قديم لإحدى الآيات القرآنية؛ اتفق عليه جميع المفسرين، فجعلوا منه (فتوى مغراوية) تدعو إلى تزويج الصغيرات!
وبدأت فصول هذه المسرحية الهزلية على خشبة جريدة (علي أنوزلا) الذي يحمل نفس التوجه ضد الأسلمة والإسلاميين، ثم تتابعت الصحف العلمانية -وعلى رأسها الأحداث المغربية- على تضخيم الموضوع وتهويله بشكل عجيب وغريب، لم نر مثله إزاء الفضيحة التي كشفتها يومية المساء؛ والتي بينت تورط شركة الهمة (مينا ميديا كونسيلتين) في استغلال صفقة لإدماج مكتبي الماء والكهرباء، استلمت بموجبها مبلغ: (750) مليون سنتيم من المكتب الوطني للكهرباء!
..ثم جاء قرار الإغلاق متشبثا بخيوط قانون الإرهاب؛ ليخرق القوانين الجاري بها العمل، ويصادر حق الجمعية القرآنية في ممارسة نشاطها الجمعوي.
ولما كانت القضية مفتعلة ومدبَّرة؛ لم يتم الالتفات إلى التوضيحات الجلية التي قدمتها جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة عبر وسائل الإعلام، وبينت فيها أنها تعمل في إطار قانوني منذ تأسيسها عام (1976)، وأنها قدمت للمجتمع خدمات تنموية ودعوية في إطار منهج السلف الصالح المتسم بالوسطية والسماحة، ولم يؤبه ببيانات الدكتور محمد المغراوي التي أبطل فيها كل التهم المنسوبة إليه، بل أغلقت مقرات جمعيات أخرى بذريعة حملها فكر المغراوي!!!
فلما تدخّل القضاء وأنصف الجمعية، وألغى مسوغ قرار الإغلاق المتمثل في كون الجمعية لا تلتزم بتقليد المذهب المالكي والمعتقد الأشعري، ولا بما جرى عليه عمل المغاربة من طقوس وعادات مثل: رفع الصوت في تشييع الجنائز وقراءة سورة يس في المقابر جماعة.. ولا تلتزم أيضا بالسلوك الصوفي -حسب قول دفاع الداخلية-!!
تحركت الجهة التي أمرت بالإغلاق، وحملت قاضي الاستئناف على إلغاء حكم المحكمة الابتدائية، فامتثل “خرقا للقانون، ومجاملة للسلطة التنفيذية وتحقيقا لهدفها بدعوى حفظ الأمن، ومحاربة الإرهاب، ودون أية حجج أو دلائل تذكر”، على حد تعبير الأستاذ (محمد الطاهر ترحم) عضو هيئة الدفاع.
وقد علّق هذا الأخير على حكم الاستئناف بأنه غير قانوني؛ وقال في تصريح لمراسل السبيل: “لقد صدمني الحكم المنطوق به، وشعرت بأنه حكم خطير؛ إذ يخول للولاية السطو على حق المواطنين في تأسيس الجمعيات وممارسة نشاطها المعلن، وهذا يتنافى مع القانون، الذي يلزم السلطات بالرجوع إلى المحكمة في مثل ذلك القرار، والإدلاء بتحقيق يؤكد تورطها في ما يستلزم إغلاق مقرها”، وأضاف قائلا: “إننا نأمل أن يتمتع المغرب بقضاء نزيه ومستقل، ويبدو أن تحقق هذا الهدف لا يزال بعيدا عن الواقع”اهـ.
وقد كشف السيد جعفر حسون الرئيس السابق للمحكمة الإدارية بمراكش، الذي حكم لصالح جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة؛ بأنه تعرض لضغوط شديدة ليحكم ضد دور القرآن، لكنه رفض؛ ولذلك تم توقيفه على خلفية ملفات ثلاثة، كان منها ملف دور القرآن..
إن الحقائق المتقدمة تبيّن أن دور القرآن الكريم كانت ضحية المتنفذين الاستئصاليين، الذين ينبغي أن يحقق معهم في ملفات كثيرة، وليس فقط في ملف دور القرآن: ملف تفجيرات 16 ماي، وملف معتقلي ما سمي بالسلفية الجهادية، وملف قانون الإرهاب، وملفات الصفقات المشبوهة والسياسات الفاشلة التي استنزفت خيرات البلاد والعباد.. إلـخ.
إننا أمام لوبي علماني استئصالي يسعى لاستنساخ نموذج (بن علي ونظامه)، وأن يتتبع خطواتهما حذو القذة بالقذة؛ (استبداد سياسي، نفوذ على أكثر أجهزة الدولة، محاربة مظاهر الإسلام ودعاته، فساد مالي.. وهلم جرا).
وأخطر أضرارهم؛ أنهم يحملون نظرة عدوانية تجاه الإسلام دين المغاربة ودين الدولة المغربية منذ 14 قرنا، ولسنا بحاجة لحشد الأدلة الواضحة على ذلك؛ وحسبنا أن نذكر بما صرح به اليساري (إلياس العماري) صديق (الهمة)؛ بأن معركتهم هي محاربة أسلمة المجتمع المغربي!!
وهي الحرب التي انخرط فيها الإعلام العلماني المسيَّر من طرف هؤلاء؛ الشيء الذي يفسر لنا هزال وسفاهة ما يعرضه القطب السمعي البصري، ويفسر الحملات الشعواء التي تشنها الصحافة العلمانية ضد كل ما هو إسلامي..
لقد نسي هؤلاء أن الحرب على الإسلام خاسرة سلفا، وأن النفوذ والسلطة والثروات، وإن كانت أسلحة فتاكة، فإنها أمام الدعاء كحبال السحرة أمام عصا موسى، والدعاء هو سلاح المؤمنين المستضعفين الذين لا حول ولا قوة لهم إلا بالله، وكفى بالله وكيلا، وما سقوط أعتى الاستئصاليين وافتضاح أمرهم في هذه الهبَّات الشعبية في العالم العربي؛ إلا ثمرة من ثمرات دعاء المظلومين وانتفاضة المكلومين..
وفي المغرب؛ نأمل أن تحاصر المبادرة الملكية في الإصلاح فلول المفسدين الاسئصاليين، فقد جاء الخطاب الملكي ليعيد زرع الأمل في النفوس، التي ضاقت ذرعا بتغول القوم، وبما مارسوه من سياسة إقصائية احتقارية ضاعفت حجم الفساد، وخنقت مظاهر التدين وأجهضت محاولات الإصلاح..
وكما أحاطت تلك العصابة النشاط الإعلامي بأطرافها الأخطبوطية، وجعلته مصدرا للفن الساقط والسهرات الماجنة والأنشطة المتحللة، فقد أحكمت قبضتها على الاقتصاد وأبقته حبيس سجن الرأسمالية الشرسة التي تضخم ثروة القلة على حساب الكثرة، وضيقت على مشروع البنوك الإسلامية.
كما زرعت (الفيروسات) الفتاكة في جسد التعليم وأفرغته من بعده الأخلاقي والتربوي، ومن كونه ينتج أجيال المعرفة والتطور والتقنية والعمل الجاد والخلاّق، إلى كونه تعليما بائسا يحتل أدنى الرتب وينتج أجيالا من الفاشلين.
وأفسدت القضاء وجعلت منه عصا تعلو بها رؤوس الناس، فأفرز ذلك الاعتقالات التعسفية والمحاكمات الصورية التي يتلقى فيها القاضي الحكم الذي يجب أن يحكم به رغبا أو رهبا.
وسعت لإغراق المجتمع في كل أنواع السلوكيات الشاذة والمنحرفة باسم الحريات وحقوق الإنسان؛ ففتحت الباب على مصراعيه للإلحاد والشذوذ الجنسي والسخرية من الشعائر والهجوم على الثوابت..
وفي مقابل هذا التمكين المطلق لـ(اللاديني)، مارس الاستبداديون رقابة صارمة على الدين والدعوة الإسلامية، وحاولوا حصرهما في أضيق زاوية توجد في المجتمع؛ وهكذا سعوا لاختراق السياسة الدينية لتوجيهها وفقا لرؤيتهم، وأخضعوا رجالها من الدعاة والعلماء لرقابة تحصي أنفاسهم وتعد كلماتهم، وترهبهم من خلال ترسانتهم الإعلامية ونفوذهم السياسي؛ فالخطيب الذي يستنكر تجاوزات المهرجانات والشواطئ يفصل، والعالم الذي ينتقد رموز العلمانية يزجر، والدعاة الذين يرفعون راية القرآن والسنة يضيق عليهم ويقصون.. كل ذلك باسم محاربة الإرهاب والتطرف!!
كمّموا أفواه العلماء والخطباء الرسميين، ومن رضي من التيارات الإسلامية خوض اللعبة السياسية حاربوه وحاولوا استئصاله من المشهد السياسي، ومن عزف منها عن السياسة صادروا حقه في التجمع وأغلقوا جمعياته ومؤسساته ومنها دور القرآن السلفية..
وأما معتقلو ما سمي زورا بالسلفية الجهادية فقد نالهم من الظلم والجبروت ما يندى له جبين العدالة والإنصاف ويستوجب إجراء مصالحة وطنية عاجلة خاصة بعد المراجعات التي أجراها كثير منهم..
وقد مهد أولئك لهذه الحرب؛ بدعاية إعلامية توهم المغاربة بتهديد اللحية والحجاب لمغرب الديمقراطية والحداثة! وبمكر سياسي ألزموا من خلاله الأحزاب على المصادقة على قانون الإرهاب؛ هذا الإرهاب المزعوم الذي خدعت به العقول، وسفكت به الدماء، وانتهكت به الحقوق..
وقد كَشفت حقيقته ثورتا تونس ومصر، وحولتاه من مصدر قلق وباعث على الخوف، إلى مصدر سخرية واستهزاء؛ فصار (بعبعا) بعد أن كان ظاهرة، وأضحى شبحا بعد أن كان حقيقة..
وفي الوقت الذي زعم فيه (الهمة) أنه جاء لمحاربة الفساد والمفسدين؛ انكشف أن حزبه تصدر قائمة المفسدين، كما شهد بذلك عدد كبير من الذين قدموا استقالتهم من الحزب، مؤكدين أنه يقوم على الفساد كغيره، وقد كشفت تقارير لجان التفتيش التابعة لوزارة الداخلية لعام (2010) أن (حزب الأصالة والمعاصرة) يأتي في مقدمة الأحزاب التي تتهم بخروقات في التدبير المحلي..