..لا تزال شرذمة من السوريين تحت تأثير بيع الذمم، والطمع في القرب من الأسد، ولو برفع اسمه وصوره في الشوارع؛ والصياح بتأييده، فيرميهم أبو العلاء بقصيدته المعروفة، داعيا فيها الأسد بمخالفتهم والانصياع لأمر الغالب من الشعب الحر:
لا خير في الناس إن ألقوا سيادتهم إليك طوعا فخالفهم ولا تسد
وأضحى خوف الحكام مزدوجا بعد ثورة الشعوب، كان خوفهم أمريكيا صرفا، يترقبونه فوق سمائهم، ثم أنتج الربيع العربي خوفا ثانيا هو خوف يأتي من تحت كراسيهم، ولا خيار لهم أمامه إلا الإصلاح أو العزل وهو ما يشير إليه المعري:
أَجْمل فعالك إن وليت ولا تجُر سبل الهدى فلكل وال عازل
وتستمر المعركة تحت شعارين: أحكمكم أو أقتلكم، وشعار: الشعب يريد الحرية، ويدرك الثائرون أن ثمنها باهض، بل لا تقبل أن يفوز بها مستحقها إلا بصداق لونه أحمر، ويصف المعري ميدان المعركة بين الثائرين، وبين الجيش السوري، مستنهضا همم المتظاهرين:
لقد آن أن يثني الجموح لجام وأن يملك الصعب الأبي زمام
محلٌّ بأرض الشام يُطرد أهله ولكنهم عما يقول نيـــــــام
وتعجز الأخبار عن نقل كل ما يجري في شوارع سورية، لتبقى أصوات النيران، ومشاهد الأجساد المخضبة بالدماء؛ أصدق ناقل:
كفى بخضاب المشرفية مخبرا بأن رؤوسا قد شقين وهام
ضاق النظام ذرعا بالمتظاهرين، وكثرت الانشقاقات في صفوف الجيش السوري، ليلتحقوا بدعاة الحرية، وتأسس المجلس الوطني خارج البلد على حذو المجلس الانتقالي في ليبيا، لينادي بالدعم العالمي على المستوى السياسي، ووصلت إلى دمشق لجنة من دول الخليج لتأخذ على يدي النظام، وتثنيه عن قتل شعبه، لكنه يترك لنفسه مهلة ليتحايل على المشهد، ويشكل لجنة من لحمه ودمه، وزعم أنها تنطق باسم المعارضة المتظاهرة، لكن الحيلة انكشفت، ما دامت الأفواه المتظاهرة تُسمع صوتها. فلا مجال للجن، ولا صلح ممكن إلا بمساءلة الظالم وأخذ الثأر منه، ولا صوت يعلو على الإسقاط، ولا خيار إلا الثورة.
وردوا إليك الرسل والصلح ممكـن وقالوا على غير القتال سلام
فلا قول إلا الضرب والطعن عندنا ولا رسل إلا ذابل وحسام
ثم يصل خبر هلاك القذافي إلى المعري وهو في ميدان المواجهة، لكنه ينزه لسانه أن ينطق حتى باسمه، أو يخلده في شعره، ويكتفي بالتلويح بابنه المعتصم بعد أن رآه أسيرا ثم مقتولا:
سُرّ الفتى من جهله بزمانه وهو الأسير ليوم قتل يُصبر
لعبت به أيامه فكأنــــه حرف يلين في الكلام وينبر
ويزيد مشهد قتل القذافي ومن معه في إرباك النظام السوري، ويشتد الخناق على الأسد، وتضيق عليه الدنيا، وتزيد حيرته فيما تحاول حاشيته أن تمده بغرور جديد كلما اختلطت عليه الأوراق، والتحليل اللائق أن استعماله للسلاح الثقيل من أول وهلة، كان على حسب ظنه أن الثورة سيقضى عليها وتنتهي بعد رؤيتها قوة الجيش، وأن أمدها لن يستمر إلا شهرا أو أسابيع، لكن التراجع في نظر الثائرين حرام:
وقالوا شهور ينقضين بغزوة وما علموا أن القفول حرام
ثم يفعل الموت فعلته في أهل الشام، وتشتعل فتنة التظاهر في جل المدن، وتسكت أخبار العالم عن نقل الحقائق، إلا نزرا يسيرا منها تسرقه أعين الجوالات، وتظهر الشاشات الوطنية السورية المتظاهرين في أعين الناس إرهابيين باغين للفتنة، خارجين عن القانون، وتسكت عن الجرائم التي أحلتها بين المتظاهرين السلميين فيندفع المعري قائلا:
الدهر يصمت وهو أبلغ ناطق من موجز ندس ومن أخبار
إلا أن الأمر ينفضح، وتتحدث الصحف الأوربية عن قتل الأطفال والأبرياء، والنساء، والشباب العزل، وتتحدث الأمم المتحدة عن استعمال عنف زائد ضد المتظاهرين، وتطالب جمعيات حقوق الإنسان بالتدخل لمتابعة القتلة، وتعلن وزارة الخارجية الأمريكية بفقدان الشبل شرعيته، لكن المعري يدرك وقد أمضى في الثورة ما أمضى أن الزمان لم يتغير فيه شيء، وأنه لا جدوى من ذلك وقد بحَّت أصوات المتظاهرين بمحاكمة السفاح وأخذ الثأر منه بعدما فعلت فيهم أنياب الأسد فعلتها، فهم يوقنون أنه لن ينثني عن فعله حتى ولو قتل العالمين كلهم، فيقول المعري:
يا طالبا ثأر القتيل ألم يبِن لك أن كل العالمين جبار
وكأن الملل والتعب خيف أن يتسرب إلى المتظاهرين، فيريد المعري أن يقوي عزائمهم، ويرفع من هممهم، وهم الذين ذاقوا مرارة الفقر والقهر، واكتووا لأزمان بنار الاستبداد، لكنهم اليوم آثروا نار الرصاص:
وآثرت حر النار تُسعر دائما على الفقر أو غصن له غير وارق
وأحلف ما ضرّ الكريم ظهوره مع الرهط يمشي في القميص الشبارق
هكذا يحلف أبو العلاء، أنه لا يصبر على لأواء المظاهرة إلا الكرام، وأن ذلك لن يضرهم حتى ولو فلتت أرواحهم ما دامت زهقت وهي تنادي بالكرامة:
فإن عُدتَ فالمجروح تؤسى جراحه وإن لم تَعُد متنا ونحن كرام
شرح المحتجون للمعري بعد استفسار صدر منه، أن مشروع القهر بدأ مع حافظ، ليتمه نجله؛ فعقب المعري:
وفي الأصل غش والفروع توابع وكيف وفاء النجل والأب غادر
فالأسد لم يشذ عن النهج الذي رسمه له أبوه بدماء أهل سورية، ففضائحه ملأت الدنيا، وشغلت الألسن، من أجل إسكات كل صوت ينادي بالإصلاح، ولو أدركت حافظا عاصفة الربيع العربي لاقتلعته ومن معه، ولا أظن أنها ستتورع حتى من حسين، لكن الحظ أسعف حافظا في توريث العرش ما لم يسعف مباركا ولا معمرا وربما ولا صالحا والعلم عند الله؛ لقد صفقت الأكف نفاقا للأسد يوم اعتلائه عرش أبيه، وارثا معه الرعية، لكن سرعان ما نغّص لذة الحكمِ انقلاب الرعايا على الرعاة:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
ولو دامتْ الدولات كانوا كغيرهم رعايا ولكنْ ما لهُنّ دوام
ويشعر أبو العلاء بالخيبة والحزن العميق، لما يرى من كثرة القتلى في ميادين سوريا، ويرثي أهالي حماة فيقول:
صاح هذه قبورنا تملأ الأر ض فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأر ض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العهـــــــــــــــــــــــد هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد
رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكاً من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفينٍ في طويل الأزمان والآباد
وتطول مدة الثورة ولا جديد، إلا الفتك والقتل والحديد، ولا أمن في اليمن، ورصاص طالح على رؤوس المتظاهرين، وهنا في سوريا قد كشر الشبل عن أنيابه، وسطا على المتظاهرين بأظفاره.
اكتسب أبو العلاء خبرة الكر والفر في شوارع معرة النعمان، وبدأ يتقدم شيئا فشيئا غير آبه بوابل الرصاص، وصار مرموقا وسط الحشود، وأحيل النطق باسم المتظاهرين، فأعلن يوم على الشاشات:
من السعد في دنياك أن يهلك الفتى بهيجاء يغشى أهلها الطعن والضربا
فإن قبيحاً بالمسوَّد أن يـــــــرى على فرشه يشكو إلى البقر الكربا
وفي يوم من أيام الثورة استهدف المعري في وسط المتظاهرين، فأصابه رصاص بشار ليحمل على إثره إلى قسم الإنعاش، وبعد غيبوبة طويلة استفاق وكأنه أراد أن يودع أصحابه ليعود إلى رمسه الساكن، بعيدا عن الضجيج والصراخ، والموت والإرهاب، فرثى نفسه بهذه الأبيات ثم بكى وشهق شهقة ثم شخص بصره.
الأبيات:
عذيري من مارد فاجر تقرأ والمخزيات افترى
فهوّن عليك لقاء المنون وقل حين تطرق طرق كرا
فصبرا على الحكم لما اعترى
فكم نزل القيل عن منبر فعاد إلى عنصر في الثرى
وأخرج عن ملكه عاريا وخلّف مملكة بالعرا
ونومي موت قريب النشور ونومي موت طويل الكرا
نؤمّل خالقنا إننـــــــــــــــا صرينا لنشرب ذاك الصرا