المظاهرات التي نشاهدها هذه الأيام في تونس ومصر والأردن واليمن وغيرها ذات دلالات عميقة، فالمجتمعات الإسلامية سئمت من الأنظمة الظالمة التي تتحاكم إلى غير شريعة الله، وتحمي مصالح القوى الاستعمارية، وتوظف إمكانيات البلاد والعباد لأغراض ذاتية فئوية متعدية على حقوق الشعوب الدينية والدنيوية.
إنها ثورة ضد المذاهب والأيديولوجيات المستوردة التي فشلت فشلاً ذريعاً في تعاملها مع الشعوب، فشلت في المحافظة على هوية الأمة وتعبيد الناس لله تعالى، وتحريرهم من الاستبداد والتبعية للغرب، وأخفقت في تطوير وتنمية بلدانهم.
لقد فتح الشباب والفتيات الجدد أعينهم على مجتمع يمتلك كل عناصر النهوض والتميز، ويحوي إمكانيات هائلة للخروج من البؤس الحضاري والتراجع التنموي؛ ولعل من أبرز مقومات النهضة الكامنة في الأمة: الدين الصحيح، والتاريخ العريق، والثروات الطبيعية الثرية (النفط، والمياه، والزراعة..)، والكثرة السكانية وخاصة الشباب، فالأمة الإسلامية المعاصرة أمة شابة فتية، ومع كل هذه المقومات الواعدة إلا أن هذه الشعوب متراجعة ومتأخرة في كافة المجالات، فالتغريب وضياع الهوية والاستبداد وغياب الحريات الشرعية والفقر والبطالة وسرقة الأموال العامة وتحطيم معنوياتها؛ هي من أبرز معالم الواقع المعاش.
إن من حق هذه الشعوب -التي يزيد في كل يوم شعورها بالقهر والظلم في دينها ودنياها- أن تنال استقلالها من الفاسدين الذين يحكمون بغير الشريعة، ويوظفون إمكانيات البلاد في إفساد المجتمع في دينه وأخلاقه، ويسرقون حقوقه وثرواته.
هذه المظاهرات التي نراها في العالم الإسلامي اليوم تؤكد حقيقة فكرية مهمة وهي فشل التيارات الفكرية العلمانية التي توصلت إلى الحكم بعد خروج الاستعمار المباشر من البلاد الإسلامية، لقد فشلت هذه التيارات الفكرية عندما أقصت الشريعة الإسلامية عن الحكم، وألزمت الأمة بقوانين ومناهج تناقض دينها وهويتها، وعندما استولت زمرة من الفاسدين على الحكم واحتكروا السلطة، ونفذوا أجندة الدول الاستعمارية، وساروا ببلادهم على خلاف مصالحها الحقيقية، ونهبوا ثروات الشعوب، وجوعوا وأفقروا وأذلوا وأهانوا وحطموا واحتقروا وسرقوا شعوبهم: خدمة لأعدائهم، وتحقيقاً لشهواتهم الخاصة.
إن الراصد لنتائج وكيفيات ومآلات التيارات الفكرية العلمانية التي استولت على حكم البلاد العربية والإسلامية يتعجب من صبر هذه الشعوب المظلومة عليهم كل هذه المدة.
وبعد كل هذه الفترة والمدة التي ابتليت بهم الأمة ما هي النتائج؟
الحكم بغير الشريعة، وتنفيذ رغبات المستعمرين، وسرقة أموال الدولة، وإفساد أخلاق الناس، ومطاردة العلماء والدعاة وكل من يطالب بالنهوض والحريات المشروعة التي تنمي البلاد وتعطي المجتمع الثقة بنفسه وإمكانياته، وإخراج أعداد هائلة من الزنادقة والملحدين وأعداء الدين، وأعداد كثيفة مثلها من الراقصات والفاسدات، في الوقت الذي غابت فيه التنمية الحقيقية للمجتمع، والتطوير المفيد لإمكاناته.
هذه الثورات هي ثورة على العلمانية والمشروع التغريبي والفاسدين والمستبدين الظلمة، والسارقين لأقوات الفقراء، والناهبين لحقوقهم، والمحتقرين لشعوبهم، والخونة الذين ينسقون مع الأعداء ضد مصالح أهليهم وبلدانهم.
هذه الثورة تدل على أن الظلم بلغ مداه، وهذا ما جعل الغرب المستعمر يدعو حلفاءه إلى ضرورة التغيير، وهي حيلة غربية للتخفيف من الاحتقان، والالتفاف على استحقاقات الإصلاح الحقيقية، وإيهام الناس ومخادعتهم بالإصلاح.
إن من الواجب على العلماء والمثقفين وقادة الفكر والرأي أن يشاركوا في توجيه هذه الشعوب، وضبط بوصلة هذه الثورات العفوية الناتجة عن احتياجات حقيقية حتى لا يتم اختطافها من سارقي الإنجازات والمتربصين بالأمجاد الذاتية على حساب الحقوق المشروعة للمجتمع.
ويجب أن تكون المطالب واضحة وبينة وهي الرجوع الحقيقي إلى الإسلام والتطبيق الصحيح له في الحكم والأخلاق والحقوق والحريات والشورى والتوزيع العادل للثروات والمحافظة على مقدرات البلاد وإمكانياتها وثرواتها، وتطويرها بما يحقق الأهداف المجتمعية الصحيحة، وتنمية المجتمع دينياً ودنيوياً، والعودة إلى الهوية الإسلامية للمجتمع وتاريخه العريق، وعدم السماح بتطبيق التجارب المخالفة لدينه وحضارته، فالأمة لم تعد حقلاً للتجارب الشرقية والغربية؛ بل يجب أن تكون لها خصوصيتها الإسلامية والتاريخية والأخلاقية التي تميز نهضتها وتنميتها وتطورها وحضارتها بخصائصها الذاتية.