إن الظرفية التاريخية التي مهدت لفرض الحماية على المغرب 30 مارس 1912 لم تكن وليدة هذه الفترة بل يرجع تاريخها إلى ما بعد وفاة السلطان القوي محمد بن عبد الله.
فبعد وفاة السلطان محمد بن عبد الله ووفاة ابنه اليزيد (1790-1792م) الذي توفي إثر محاولته إخماد ثورة أخيه هشام عليه، وبعد تولي السلطان سليمان وفي سنة 1797 عقد السلطان معاهدة صلح وأمان مع الأسبان، وقد اشتملت على 38 مادة كان بعضها خاصا بحالة الرعايا الأسبان وحقوقهم في مراكش وتضمنت من بين ذلك امتيازا خطيرا أعطى للأسبان أول حجرة وضعت في أساس الامتيازات الأجنبية في المغرب، وقد نص في هذه المعاهدة على أن المنازعات التي تنشأ بين مغربي وإسباني في الأراضي المغربية يحدد اختصاص القضاء فيها بناء على قاعدة “المدعي يتبع المدعى عليه إلى محكمته” ومعنى ذلك أنه في الحالة التي يكون فيها المدعي مغربيا يجب عليه أن يلتجئ إلى القنصل الإسباني ليرفع أمامه قضيته، وأن يقبل الخضوع للقانون الأسباني الذي يطبقه القنصل عليه وعلى خصمه.
وبما أن القانون الوحيد للدولة المغربية هو الشريعة الإسلامية فهي لا تسمح بخضوع المسلم لقاض غير مسلم، ولا بتطبيق ما يخالف الشريعة الإسلامية عليه، ولذاك فإن قاعدة “المدعي يتبع المدعى عليه إلى محكمته” التي تقررت في هذه المعاهدة كانت متعارضة مع مبدأ جوهري في الشريعة الإسلامية ومعطلة له في داخل دار الإسلام، ولم يعد في استطاعة المغرب تطبيق تشريعه المحلي في هذه الناحية نظرا لالتزاماته بما يخالف ذلك في هذه المعاهدة.
كانت هذه المعاهدة أول قيد خطير على سيادة الدولة المغربية أضيفت لها بعد ذلك معاهدات أخرى أطاحت بتلك السيادة نهائيا.
كانت هذه الخطوة مبدأ تحول في مسألة حالة الأجانب في المغرب حيث كانت قبل هذه المعاهدة في دائرتها القانونية العادية فانتقلت بها إلى الميدان السياسي الذي يمس سيادة الدولة.
ثم جاء السلطان عبد الرحمن بن هشام (1822-1859م) الذي حاول إصلاح التخريب والفساد الذي أصاب البلاد في العهد السابق، فما كاد أن يصل بجيشه بعد مجهود شاق وجبار إلى درجة تسمح له بالقيام بمهمة المحافظة على الأمن والنظام في الداخل؛ حتى وجد نفسه مرغما على الاشتباك مع الجيش الفرنسي الذي كان قد احتل الجزائر في ذلك الحين وبدأ يتطلع إلى الهجوم على المغرب.
وهكذا نشبت معركة طاحنة بين الجيش الفرنسي الغازي والجيش المغربي الذي كان أشبه شيء بحالة المريض في فترة النقاهة، وكانت النتيجة هي انهزام الجيش المغربي انهزاما شنيعا في معركة إيسلي سنة 1844م.
وقد استطاعت الدول الأجنبية بسبب هذه الهزيمة أن تخطو خطوات جديدة في فرض إرادتها على الدولة المغربية للحصول على امتيازات أخرى.
وفي سنة 1859 توفي المولى عبد الرحمن بن هشام وخلفه ابنه محمد، واقترن اعتلاؤه العرش بكارثة أخرى كانت بمثابة الإجهاز على هذه الأمة، وهي حرب تطوان التي دارت رحاها بين المغرب والإسبان، والتي كان المغرب غير مستعد لها بسبب النكبات السابقة التي لم تترك له من القوة ما يدفع به هذا العدوان الإسباني، الذي انتهى بتغلب الأسبان واحتلالهم تطوان، ثم أبرمت بعد ذلك معاهدة صلح بين الطرفين التزم بها المغرب بدفع عشرين مليون ريال في مقابل الانسحاب من الأراضي التي استولوا عليها.
ومما جاء في هذه المهادنة في البند العاشر: “عقد وفاق تجاري، وإجراء رعية إسبانيا على القواعد التي يجري عليها غيرهم من الدول الحائزين لتصرف الامتياز”.
وقد استغل الأجانب هذه الظروف السيئة التي أحاطت بالبلاد فاغتصبوا كثيرا من الحقوق بالإكراه؛ من غير اعتماد على نصوص من المعاهدات؛ ولا على تشريع المغرب الداخلي. فتفاحش بصفة خاصة توزيع الحمايات على المواطنين المغاربة، الأمر الذي دفع بالحكومة المغربية لعقد مؤتمر مدريد سنة 1880، في عهد السلطان الحسن الأول اشتركت فيه جميع الدول الأجنبية صاحبة الامتيازات، وذلك لحصر الإسراف في منح الحمايات للمغاربة بطرق غير مشروعة.
وقد أسفر هذا المؤتمر عن إبرام اتفاقية أمضتها جميع تلك الدول وتقرر فيها تأكيد حصر إطلاق منح “الحماية” للمغاربة كما حددتها المعاهدات السابقة، لكن لم تلتزم الدول الموقعة على هذه المعاهدة بذلك.
كل هذه المعاهدات والأحداث التي ذكرنا، أذهبت بالهيبة التي كان يحضى بها المغرب، ومهدت وبشكل قوي لخضوع المغرب للاحتلال الفرنسي/الإسباني.