ثلاثة وثمانون من المغاربة يؤيدون تطبيق الشريعة في جميع مناحي الحياة وفي شتى تجلياتها السياسية والتعبدية والمعاملاتية..؛ والأكثر من هذا أن يصنف وضع المغرب الديني في المراتب المتقدمة إلى جانب أفغانستان وباكستان وفلسطين.
وحتى لا تظن بنا الظنون وتترادف التهم وتتعالى المزاعم والدعاوى نعطف قائلين أن هذه النسبة المئوية؛ وهذا التصنيف البالغ الذروة ليس من صنيع رواد التهريب الديني أصحاب العدوى الوهابية والوافد الظلامي المشرقي؛ ولا حتى هو من صنيع أصحاب الخلطة الثلاثية الرسمية؛ ولا حتى من استقراء نصوص الوحي وتتبع أثارها خلفا عن سلف؛ ولكنها -بمنطق شهد شاهد من أهلها- دراسة أنجزها المركز الأمريكي “بيو” للدراسات الإستراتيجية؛ وقام بتعميم تقريرها على وسائل الإعلام العالمية.
ولعل هذا المنطق السالف ذكره يحل الكثير من الأزمات التي بات يخلق ضجيجها الإعلام العلماني الحائف الذي ما فتئ يغرد خارج سرب الواقع والحقيقة؛ بل لا يزال ينفخ في رماد القلة يريد من خلال نفخه الموبوء أن يحجب أفق الحق؛ وأن يعترض سبيل سيله العرم.
وإلا أين هذه النسبة وهذا التصنيف من جلجلة وصفير أولئك الذين خلصوا في وقت سابق إلى انطباع يجانب الصواب مفاده أن الشعب المغربي كان ولا يزال تواقا للحداثة؛ منبهرا بقيم الغرب؛ منيبا لوافدها الصقيعي الشاذ؟
ويحضرني في هذا السياق تلك الضجة وذلك الضجيج الذي تلا خروج ذلك النفر من الفتية المراهقين المطالبين بالإفطار الجماعي في مدينة المحمدية؛ وكيف استطاع الإعلام المسموع والمسطور والمنظور أن يقدح في إجماعنا الإيماني؛ وأن يصور هذا المشهد الدرامي ويحوره إلى ردة جماعية جاوزت الجل إلى الكل؛ الذي ينسخ إجماعه كلمة الحق كلمة الأمر، كلمة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أين هذه النسبة وهذا التصنيف من الذين يرفعون شعار الحريات الفردية وسمو المبادئ الكونية على إسلامية المغاربة وانتسابهم الوثيق لهذا الدين العظيم؟
أين هذه النسبة وهذا التصنيف من الذين لا يطيقون سماع كلمة قال الله وقال رسوله، ويخافون على إنسانية المغاربة من التلف والتخلف الذي تتوعدهم به استشرافا فكرة تطبيق الشريعة؛ والانتصار للتدين المستوعب للدين؛ البعيد البريء من لازم المزاوجة بين الشأن والدين تنزيلا وتيسيرا لخلق حالة انفكاك بين الشأن الديني والشأن الدنيوي؟
ثم هل يملك رواد الإفك الحداثي الجديد دعاة الحرية مناصروا الإلحاد المزايدون على إسلام المغاربة إيجاد الرد الذي يفند إحصاء وتصنيف غرنيقهم الأبيض ومعبودهم الأمجد؟
إننا وإن كنا لا نحتاج إلى هذه الشهادة ولا نعول على أرقامها تعويلا نستدل أو نستشهد به ومن خلاله على أن المغرب بلد مسلم، وأن قاطنوه مسلمون إلا أن هذا لا يمنعنا أن نبحث جاهدين في ثنايا هذا الإحصاء؛ أو إن شئت فقل: (الاعتراف على مضض وغرض) عن قواعد يقينية؛ ومسلمات قطعية؛ يكون من شأنها خلق راحة نفسية واستكانة وجدانية في أعماق من يكونوا منا ولا ننكر وجودهم بيننا؛ ممن نال منهم بهتان الإعلام العلماني الغاشم، واستطاع بتلبيسه وتدليسه أن يخرج بهم من دائرة اليقين إلى هوة الشك والتردد والوساوس القادحة في صفاء فطرة المهد، وعقيدة الإيلاد قبل صبغة الكسب والإمداد.
إنها عين القواعد التي كان على رأس يقينياتها التسليم عند التقاء الحق بالباطل بذلك الحكم الحاسم الذي قرره ربنا جل في علاه أزلا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} معرجين من خلال البحث في ثنايا هذا الإحصاء على مواجهة القوم بجنس المعطيات والحقائق التي يخبتون لتقاريرها وتقريراتها.
سيما وأننا لما بلونا خبرهم واستمنا قلوبهم من خلال ما نضحت به ألسنتهم وحبرته أيديهم؛ وجدناهم لا يرقبون في الدين ولا في التدين لشرعة الإسلام إلاّ ولا ذمة، ولذلك كانت مواجهتهم بما راكمته قبلتهم المعرفية وما جادت علينا وعليهم به الدراسات الغربية الجد متخصصة، والتي اطردت قواعد النظرة منهم إليها أنها لا تنطق عن الهوى!
فهل يا ترى يخرقون هذا الاطراد وهم يصطلون بنار هذه المعطيات التي جعلت مغرب الموازين؛ مغرب الإثنيات؛ مغرب الأمازيغ؛ مغرب الشواذ؛ مغرب المفطرين؛ مغرب عصيد؛ والأكحل السعيد؛ والباتول العانس الفضولية؛ وزايد؛ وبوسريف؛ ولغزيوي… وهلم جرا من رجالات ذلك السند المترهل الذي ساد روايته الوضع والكذب في مصاف أفغانستان وباكستان طالبان وفلسطين الجهاد.
إننا و نحن نخرج هذا الإحصاء مخرج النقل والتخبير لا نزال لم نسمع للقوم ركزا؛ ولم نقرأ لهم تعليقا يفند هذا الطرح الذي يحمل بين ثنايا سطوره قصة شعب راهنوا عليه بالغالي والنفيس؛ وأنفقوا بسخاء وذكاء ودهاء؛ غايتهم إخماد جذوة الإيمان المتقدة في صدور المغاربة الذين ركب أسلافهم البحر لتبليغ هذا الدين العظيم، فكان أن دانت لسلطانهم مدنيات وحضارات لا تزال قمم المآذن وبنيان المساجد شاهدة على ذلك الأصل الضارب في طنب التاريخ.
وقد صار اليوم بيننا شذوذا واستثناء ألبسوه بفكر ومكر ثوب الغربة الأولى، ثم حاصروه وتطاولوا بعربدة وكثير جفوة على فضله وعدله باسم الإرهاب والتطرف تارة، وأخرى باسم تاريخية نصوصه التي بنوا على ركامها نظرية التجاوز الذي يليه الاستدراك على نصوصه بدعوى سمو المبادئ الكونية ووثائق حقوق الإنسان الدولية؛ التي نحتاج في مواجهتها إلى تذكير القوم أن المغرب وقّع على الكثير منها وهو تحت إبط الحماية الفرنسية.
ولعل القوم لهم من الثقافة القانونية ما يرفع عنهم العذر والمعذرة؛ سيما وأنهم يدركون أن الإكراه وغياب الإرادة قادح في صحة العقود وأثر نفاذها.
ويبقى أن نقول؛ أننا وإن كنا نؤمن أن هذه النسبة المئوية والإحصاء البالغ الذروة يبقى من حيث التقعيد له على أرض الواقع لم يصل إلى قمة الفضل بالنظر إلى حجم الشغب والضجيج المفتعل من الفئة المناوئة؛ فنحن أيضا بالمقابل نؤمن أن هذه الكثرة من المستحيل أن تتنازل على مستوى العدل؛ بل الأكثر من هذا أن نجدد إيماننا في كون هذه الدراسات التي تغرد خارج جغرافيتها باتت تعلم أن قلاعها التي كانت محصنة بالعصبيات العاوية بدل العقائد الواعية صارت بدورها في مرمى الزحف الإسلامي الفاضل، وتلك ولا شك نهاية الشيء إذا كان من جنس الزبد الذي يتحمس له المرء عادة على مستوى الفكر والتنظير، بينما في الواقع والمحيا يكون آخر شيء يعمل به.
وفي هذا السياق نحب أن ننبه على أن التعاطي مع هذا الإحصاء وهذه النسبة فيه من المؤشرات والمعطيات الملموسة التي تحكي بالصوت والصورة والإشارة على أن العلمانية كفكر وذوات تعيش حالة احتضار وموات، وهي كمشروع قد دخلها سوس الإفلاس.
ولا أدل على هذا وزيادة هو تحولها المفاجئ من التقية والتستر وراء أصباغ المداهنة؛ إلى الظهور بالوجه البشع المكشوف الذي تبدو على قسماته حكاية كره للإسلام؛ وتكالب وتطاول قل نظيره حتى في صفوف الجهة المقابلة.
وحتى نقترب من الصورة أكثر نجتر جزء من المطارحة أو إن شئت فقل المصارحة بين عصيد والزمزمي؛ وذلك عند نقطة اتهام هذا الأخير لصاحبه والشاكلة أنهم أهل نفاق، فينبري عصيد نافيا منافحا عن جيل قنطرته؛ وأنه وأنهم لا ينافقون ولكنهم قوم يعلنون ما يا يبطنون.
ولعله صدع نجعله في كنف الذين لا يزالون يحلمون بوهم أسلمة العلمانية أو حتى علمنة الدين، وقد قضى ربنا ألا نعبد إلا إياه وأن نستقيم على وفق الأمر عند مثل هكذا مساومة؛ بمنهج قول الله على لسان رسوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.