فغر الأسد فاه، وسال لعابه على شعبه، ومنذ أن سقطت أول قطرة دم وشهيته في القتل تزداد، إلى أو وصل إلى ما يزيد على عشرة آلاف قتيل، وخمسين ألف أسير، وعشرين ألف مفقود حسب ما أدلى به القاضي السوري المنشق خالد عبد الله شبيب الواوي رئيس اللجنة الحقوقية الخاصة بشهداء وأسرى حماة لجريدة الوطن الكويتية.
أما الشعب السوري الأعزل، الذي ذاق مرارة الطائفية النصيرية البعثية في عهد الأسد العجوز الهالك، فهاهو ذا يذوق طعمها مرة أخرى، بنكهة شابة، في طبق جديد، ويبقى الفرق أن الشعب استفاق في هذه المرة للثورة ضد الاستبداد والظلم، وعزم على إراقة دمه، ورد الاعتبار لنفسه، غير منتظر أخا ولا جارا، غير آبه برافعي الشعارات الجوفاء للدفاع عن حقوق الإنسان، شاقا سبيل من قال: ما حك جلدك مثل ظفرك.
القتلُ.. فالقتلُ توالى عاصفاً … لا راحمٌ يحنو ولا رحيمة
هيا اغضبي .. وانتفِضي .. فما لنا … إلا الفِدا والبذلُ والعزيمة
لا ترقُبي نَصْرَ ابنِ عمٍ أو أخٍ … أو فزعةً من خُلَّةٍ حَميمة
حتى ولو كانوا كأعداد الحصا … فالتجرباتُ كلُّها أليمة
سيوفهم حُبْلى بأحلام الْعُلا … لكنّها عند الوغى عقيمة
أُسْدٌ على الشعب … وشعبي أعزلٌ … أرانبٌ في ساحة الخصومة
قومُكِ أذكياءُ يا حليمة … جاؤوا لنا ببدعةٍ عظيمة
قالوا : لِمَ القتال في ساح الوغى … والتضحيات في الوغى جسيمة؟
والذي يستغرب له المتابع لأحداث الثورات العربية، ما يعلنه الزعماء المنبوذون في تصريحاتهم، فيصورون للشعب أن أنفسهم هم الشعب، وأن إزاحتهم إسقاط للشعب، وأن رحيلهم سيُحل الفتنة والقتال!
كأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل على الناس كفئا للحكم إلا هم، وكأن الأهليات والطاقات قد نفدت وانعدمت من الدنيا إلا هم!
بينما نرى في بعض الدول الغربية أن ذوي المناصب حينما يشمون رائحة رفضهم لدى الشعب يسارعون إلى الاستقالة قبل أن تكون الفضيحة، وفي شرعنا أن التقاتل على الرئاسة والحكم حرام، ولم يكن قط محمودا حتى في عصر الأفاضل والصالحين.
عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ ألا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟!
فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلالَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالاِسلامِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إلا عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إلا عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إلا عَلَى الدُّنْيَا.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا قَالَ فَبَادَرَنَا إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ.
وفيما نراه من كثرة القتل، والإيلاغ في سفك الدماء، لهو علم من أعلام نبوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح روى أبو هريرة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا هُوَ؟ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ].
فالظلم حرام، حرمه الله سبحانه على نفسه، وجعله بين عباده محرما، وإن الله لينتصر للظالم وإن كان كافرا، ولا يجوز قتل نفس بغير حق، كيفما كانت تلك النفس، فلقد ضمن الله سبحانه الحقوق لبني الإنسان، وأول حق يتمتع به الإنسان وهو لا يزال نطفة في رحم أمه حق الحياة، فكيف بقتلها بعدما تتعلق به وشائج وعلاقات، فيصير قتل نفس واحدة بوزن قتل أمة، فتترمل النساء، ويتيتم الأطفال، وتتثكل الأمهات بقتل واحد، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
وقد ضمن الله كرامة الإنسان بموجب شرعه، ونص على ذلك في دستوره: قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}، كما هدد الشرع قاتل النفس أيما تهديد، وأوعده بشديد العقاب، ويأتي القتل في الجرم بعد الشرك بالله، فكيف إذا كان الهدف من القتل الدفاع عن الظلم، وإقرار الاستبداد، الله عفوك يا رب، وكيف لو كان القتل ليس بالأفراد بل بالجماعات والمدن.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا].
أما حينما يكون المقتول مسلما فهو أعظم وأشنع عند الله، فعن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق]، بل حرمة نفس المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة.