يحاول كثير من العلمانيين تصوير الرافضين للقيم الغربية، أو للنظرة الغربية لحقوق الإنسان تحديدا، على أنهم أناس متعصبون يشجعون الاستبداد والديكتاتورية والظلم والتخلف، والحقيقة أن من هذه الحقوق ما هو طبيعي يولد مع الإنسان، ومنها ما تمنحه الدول لمواطنيها بحكم مواطنتهم، من هذه الحقوق ما هو مشترك إنساني، لا فضل للحضارة الغربية فيه، بل هو من صميم ديننا، وحتى إن لم يكن منه، فإنه لا يصادمه، ومنه ما هو خاص بتلك الحضارة، متأثر إما بفلسفتها، أو بمسيحيتها، أو بإلحادها..
إن الحق في الحياة، والحق في الأمن، والحق في الحرية، والحق في الكرامة، والحق في العدالة الاجتماعية، والحق في السكن، والحق في التطبيب، والحق في التدريس، والحق في التنقل، والحق في التجمع والانتظام، والحق في المعرفة، والحق في العمل، والحق في التملك، وحرمة البيوت والأصل براءة ذمة الأشخاص، والحق في المحاكمة العادلة، والحق في انتقاد السلطة والاعتراض عليها، والحقوق السياسية وغيرها. كلها حقوق مشروعة بداهة، عبر كل الأزمنة وفي كل الأمكنة، لا يعترض عليها أي إنسان، فهي حقوق طبيعية فطرية عالمية شمولية ثابتة.
ولو أردنا البحث والاستقصاء عن أصل لها في كل الديانات وليس الإسلام فقط، لحصلنا على بحث متكامل، بل لو أردنا البحث عن أصلها في الديانات الوثنية لوجدنا بغيتنا، فلا فضل إذن للحضارة والقيم الغربية في التأسيس لتلك الحقوق، ولا ينبغي السماح بالاختباء وراء هذه الحقوق المتفق عليها، لتمرير أفكار وقيم، والمناداة بحقوق غير مجمع عليها، تشوبها شوائب كثيرة، ولا يمكن فصلها عن خلفيتها العلمانية وحتى الإلحادية.
ولاشك أن الحضارة الغربية أسست لحقوق في المواطنة والحقوق القانونية والسياسية وحرية الصحافة، وانفردت بها، حفاظا على كرامة الإنسان وحريته، أمام السلطة السياسية، والأجهزة الأمنية، وهي حقوق لا يمكن إلا أن تثمن وتشجع، وهي منسجمة تمام الانسجام مع أصول ومقاصد ديننا، في تحقيق العدل وحفظ الكرامة والنفس والمال وتحقيق المساواة بين الحاكم والمحكوم.
نحن إذن أمام حقوق سابقة على الإعلان الغربي لحقوق الإنسان لا فضل له فيها، سوى أنه تبناها، وحقوق انفرد بها هذا الغرب، لا تعارض ديننا بل تنسجم معه، تستحق التشجيع والتثمين، لكن من تلك الحقوق ما يجب مناقشته، أو تكييفه حسب الواقع الثقافي والسياسي والديني لكل شعب، كقضية حرية التعبير مثلا، فهذا الحق مقيد في كل البلدان، وهو ليس على إطلاقه، فهناك حدود وقواعد وضوابط في أوروبا، لا يمكن تجاوزها على سبيل المثال، بل إن الرافضين لهذا التقييد، يمارسونه على مخالفيهم، فنراهم ينادون بإسكات هذا الخطيب أو ذاك، أو متابعة هذا المفكر أو ذاك، أو إغلاق هذا المنبر أو ذاك، لأنه لا يتوافق ونظرتهم للكون والإنسان والحياة.
أما تلك الحقوق المرفوضة بشكل قاطع، سواء من القوى المحافظة، أو الشعوب المختلفة دينيا وثقافيا عن الشعوب الغربية، وهي الحقوق التي لا يمكن أن تناقش بتاتا، فهي تلك الحقوق التي تمنح للفرد مساحة غير محدودة وغير منضبطة، وتشكل اختراقا لثقافة المجتمع وهويته وقيمه، كحقوق الشواذ، وحق التصرف في الجسد، ومهاجمة عقائد الشعب وعباداته والدعوة للتمرد عليها، تحت عنوان حرية التعبير أو حرية المعتقد، وغيرها.
إن هذا العرض الذي قدمنا، يوضح مساحة الحقوق المشتركة إنسانيا، والحقوق المنسجمة دينيا مع عقيدتنا وثقافتنا، وهي مساحة كبيرة وشاسعة، وكما يرتكب المحسوبون على الحداثة والعلمانية، الأخطاء بتصنيفاتهم السطحية، وبمحاولة تمرير غث الحقوق والحريات، تحت عباءة سمينها، فإن كثيرا من الإسلاميين يقترفون نفس الخطأ، بتصنيفات لا تقل سطحية، فيظهرون كالرافضين لحقوق مجمع عليها إنسانيا، قيم نبيلة ترفض الظلم والتسلط، تتراوح بين الوجوب والجواز دينيا، بحجة أنها قيم غربية، في الوقت الذي عليهم التفصيل فيها وتفكيكها وتصنيفها، كما أن الفريقين معا مدعوان لفتح نقاش جاد، عوض الصورة النمطية والأحكام الجاهزة المسبقة.