قال أحمد عصيد: [العلمانية فكريا هي استقلال العقل وسلطته.. العقل هو الذي يحسم ويختار ما هو خير ويتجنب ما هو شر.. هذه أطروحة المعتزلة. لا تبقى مع سلطة العقل سلطة النص.. فالعقل حينما يكون مستقلا يعطي لكل ذي حق حقه].
قلت: هذا موضوع استهلك بحارا من المداد وغابات من الأقلام والأوراق.. ولا يزيده سعة ما سأكتبه هنا.. لكنني سأكتب كلمات أقصد بها رفع التشويش العصيدي ….فقط…!
إن دعوى استقلال العقل عن الوحي في القدرة على معرفة المصالح الإنسانية ومظانها ..أو استقلاله عن سلطة الوحي في الفعل والترك قديمة.. وقد اختلفت مدارس الفلسفات العالمية في طريقة الإفصاح عن هذه الدعوى وممارسة مقتضياتها. لكن القدر المشترك بينها جميعا.. أن جل من يمجد في هذا العقل… لا ينفك منتقصا من الوحي والأديان حتى صارت شبه لازمة فلسفية سخيفة.
تقوم أصل المشكلة عند هؤلاء على عدم تحرير مصطلح العقل… وعدم تحديد هويته الطبيعية، فمصطلح بلا تحرير ولا تحديد غير مؤهل ليكون مرجعية أو مقياسا لغيره، بله أن يكون إلها يعبد من دون الله تعالى.
لقد وصل الأمر ببعض المتفلسفين مثل «جون لوك» إلى الإفراط في تمجيد العقل ورفعه عن مستواه الطبيعي الذي لا يمكن أن يتخطى نسبية الأحكام في الغالب فقال في (An Essay Concerning Human Understanding/ص:510) كما في كتاب «راندال»: (لم تبق حاجة أو نفع للوحي في مثل هذه الأمور كلها، طالما أن الله أعطانا وسائل طبيعية أكثر يقينا لنتوصل بها إلى معرفة هذه الأمور… لأن الحقائق التي تتضح لنا من معرفتنا لأفكارنا أو تأملنا لها تكون دائما أوثق من تلك التي تأتينا عن طريق الوحي التقليدي) ص:511.
فطبيعة المفكر العلماني الخالص تأبى إلا الكفر بالوحي وانتقاصه.. يقول كرين برنتون [Crane Brinton] في (تشكيل العقل الحديث/ص120) وهو أحد كبار مؤرخي الفكر الغربي: (المفكر العقلاني يميل إلى الموقف القائل بأن المعقول هو الطبيعي، ولا وجود لشيء خارق للطبيعة… ولا مكان في مخططه الفكري لقوى خارقة، ولا محل في عقله للاستسلام الغيبي لعقيدة ما)!!! هذا على فرض معرفة معنى (العقل) و(العقلاني)، بحيث نستطيع اتخاذ عقل معياري نضعه في مقابل الوحي تجوزا وإلا فالحقيقة وراء هذا كله..!
لقد انتبه المسلمون قديما لهذا، فبينوا حقيقته وأشاعوا بين الناس فضيحته، ليأمن الناس تشويش أهل البدع والزنادقة، وينأوا بعقولهم عن تدليسهم، فلم يأت بنو علمان بجديد ولم يأت أحمد عصيد بغريب حينما أقحم المعتزلة في كلامه، وأقول له: كان محمد أركون أمكر منك…! حين قال في (قضايا في نقد العقل الديني) ص279/حاوره فيه الأستاذ هاشم صالح): (…لا يمكنك أن تدحض كلام السلفيين المعاصرين بالنظريات الفلسفية الغربية… يمكنك أن تدحضه بكلام الشق الثاني من التراث الإسلامي ذاته) ويقصد المعتزلة … ولم يفلح!
وسر الخلاف بيننا وبين بني علمان في طبيعة علاقة العقل بالنص… قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله (ت 489هـ) في [الحجة في بيان المحجة 1/320]: (فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة، فقالوا: الأصل في الدين الاتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا).
وليس قصده التقليل من شأن العقل، بل وضعه في موضعه الذي خلق له، وجعله في مرتبته التي اختيرت له، فالعقل عند المسلمين مناط التكليف والفهم، وهو للوحي كالعين للنور.
قال علامة المقاصد والعقلانية الفقهية أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (2/37/دار الكتب العلمية) ردا على من زعم استقلال العقل بإدراك المصالح الدنيوية بالتفصيل اعتمادا فقط على التجارب والعادات والظنون المعتبرات: (فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه).
فليست المعركة في الإسلام بين العقل والوحي… بل بين الوحي المحمول على سراج العقل وبين الأهواء!
وأما أن العقل المستقل عن الوحي يعطي كل ذي حق حقه فأضحك الله سن أحمد عصيد.. فله أحيانا حس فكاهة ظاهر. فكم رأينا ممن يعتقد فيه العقل والعقلانية من المفكرين وفلاسفة الأدباء، وأدعياء السياسة، وظلمة الحقوقيين، وأغبياء مراكز الدراسات يرتكب من أنواع الحماقات والسفاهات، وينطق بأنواع السخافات والمستبشعات ما يلحقه بطائفة عقلاء المجانين!