فـإن يكـن لفعـل مـا أبيـحـا يضطـر كـان فعلـه صحيـحـا
ولا اعتبار فيه بالمعارض كمثل ما لو كان غير عارض
ذكر أولاها بقوله “فإن يكن” المكلف “لفعل ما” أي الذي “أبيحا” -الألف للإطلاق- “يضطر” يعني مضطرا “كان فعله” لذلك المباح “صحيحا” شرعا.
“ولا اعتبار فيه” أي في ذلك المباح، ولا اعتداد “بـ” وجود ذلك الوصف “المعارض” لحكم الإباحة فيه، بل يلغى أمره “كمثل ما لو كان غير عارض” أو موجود فيه. وذلك لأن فعله قد صار واجب الفعل ولم يبق على أصله من الإباحة؛ وإذا صار واجبا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه؛ وليس فرض المسألة هكذا، فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى فلا بد من الرجوع إليه، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ.
والثاني أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك، في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه، فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية.
والثالث أنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا، وذلك غير صحيح كما سيأتي في كتاب المقاصد من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره؛ واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب، فإن البيع والشراء حلال في الأصل، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل، فما نحن فيه مثله.
ومثـلـه مـا لا لـه اضــطــرار لكـن لـه فـي تـركـتـه ضــرار
إذ بعض ما يمنع رفعا للحرج أبيح كالقرض وما معه اندرج
“ومثله” أي هذا التقسيم الثاني وهو “ما” أي المباح الذي “لا” أي ليس “له” أي للمكلف “اضطرار” إليه “لكن له” يعني عليه “في تركه” هو عدم فعله “ضرار” يعني حرجا ومشقة، -وضرار- على وزن فعال بكسر الفاء يفيد الاشتراك، إلا أنه يرد بمعنى الضر الذي لا يدل على الاشتراك، وهو المقصود به هنا ففي هذا القسم -أيضا- يلغى اعتبار العوارض والطوارئ.
“إذ بعض ما يمنع” قد أجيز فعله وذلك “رفعا للحرج” ودرء للمشقة، “أبيح” وذلك “كالقرض” فإن فيه بيع الفضة ليس يدا، بل فيه نسيئة، ومقتضى ذلك أن يمنع، إلا أنه أجيز رفع الحرج والمشقة التي قد تكون عن منعه، فإن الناس يحتاجون في إصلاح أحوالهم ومعاشهم إليه. “و” كذلك حكم “ما معه اندرج” ودخل في هذا الحكم كإباحة العرايا، والقراض، ودخول الحمام، والأسواق والمرور بالطرق ومخالطة الناس مع ما يعرض ذلك من منكرات، فحكم ذلك كله الإباحة إذا كان الامتناع منه يفضي إلى الوقوع في الحرج والمشقة.
وخلف بعضهم بهذا المنهج شهادة فيه برفع الحرج
“و” أما “خلف بعضهم” أي بعض أهل العلم “بهذا المنهج” أي في هذا الطريق الذي قرر عليه هذا الحكم و -هو- إلغاء العوارض واعتبار ما يقتضيه أصل الإباحة -هنا هو- أي هذا الخلف “شهادة منه برفع الحرج” هنا أنه معدوم، أو ضعيف، لأن مثله معتاد في التكاليف، والحرج المعتاد مثله في التكليف، غير مرفوع وإلا لزم رفع جميع التكاليف أو أغلبها.
وهذا الذي تقدم من رجحان الأصل -الإباحة- وإلغاء معارضه، إنما يصح ويرجح إذا كانت تلك العوارض بمجموعها لا تقتضي رجحان اعتبارها، وأما إذا كانت تقتضي ذلك فإن هذا محل اجتهاد ونظر وهو ما يورد المصنف بيانه وحكمه في المسألة الموالية، وهي:
المسألة الثالثة عشرة
في أن المختار في هذه المسألة -مسألة تعارض حكم المباح الأصل المفعول للضرورة وحكم العوارض الموجبة لخلاف ما اقتضاه ذلك الأصل- هو الترجيح بينهما بقوة الحرج والمفسدة، فأيهما أقوى حرجا أو أكثر مفسدة يقدم على الآخر.
قال الناظم:
والحق أن ينظر في ذا الفصل لحرج العارض أو ذي الأصل
ففقد عارض مع الأصـل يرى إمـا مـكـمـلا لـه حـيـث جــرى
“والحق” والقول الراجح هو “أن ينظر في ذا” أي في هذا “الفصل” المعقود لهذه المسألة “لـ” تمام وقوة “حرج العارض” في محل حكم، لو ترك العمل به “أو” -بمعنى الواو- أي تمام وقوة حرج “ذي” صاحب “الأصل” وهو المباح -هنا- لو ترك العمل به، والسبيل المسلوك في ذلك أن ينظر إلى فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل هل هو من باب المكمل له في بابه، أو هو من باب آخر هو أصل نفسه، فإن كان هذا الثاني: فإما أن يكون واقعا أو متوقعا؛ وفي ذلك وحكمه.
يقول الناظم: “ففقد عارض” إذ قرن “مع الأصل” ونظر إليه نسبة بالنسبة لذلك الأصل فإنه “يرى إما مكملا له” يعني مكملا لمصلحته المقصودة شرعا منه، وذلك كالشرط مع المشروط في المعاملات “حيث” أي في أي موضع “جرى” أي وقع، فإن كان كذلك أي -مكملا له-.
يتبع..